ثانيًا: مفهومِ المجتمع المدنيّ لدى مفكري العقد الاجتماعي، والثورة الفرنسيّة

ارتبط التجلي الأول للمجتمعِ المدنيّ بمفهومهِ الحديث، مع ظهور الدولة الحديثة في عصر التنوير الأوربيّ أواخر القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، وهي مرحلةُ التحوّلِ من النظام القديم الذي كانت فيه أوروبا تنتظم في مجتمعٍ مُوحّد تحت سلطة الأمير البابوي، وحيثما الفلسفة السياسيّة السائدة آنذاك تتلخص في مجازين اثنين: يقارن أوّلهما المجتمع بجسد ساقاه الحرفيون والفلاحون على الأرض، ورأسه (البابا) يطاول السماء. ويقارن المَجاز الثاني المجتمع بالأسرة، حيث كما أنّ للأسرة ربًّا غير منازع هو الأبّ، كذلك فإنّ للمجتمع رئيسًا غير منازع هو السّلطان.[1]

ساهمت الثورة الفرنسيّة (كحركةٍ اجتماعيّةٍ) في فكفكة النظام القديم، حيث لم تعدْ طبقة النبلاء قويّةً وموحدةً وقادرةً على حماية النظام، وأخفق رجال الدين في الحفاظ على تماسكهم ووحدتهم، وحدثت تحوّلاتٌ اقتصاديّةٌ في بنية الانتاج والطبقة الاقتصاديّة مع الثورة الصناعيّة الأوّلى[2]، بالإضافة لتحوّلاتٍ اجتماعيّةٍ امتدت إلى القيم الاجتماعية والنسَقِ الثقافيّ. ليتمّ الحديث عن تغييرٍ جديدٍ رافضٍ لما كان سائد سابقًا، 

تبلورت التغييرات الحاصلة بما يخص النظام السياسي والاجتماعي الأوربي عموما، والمجتمع المدني على وجه الخصوص؛ عبر حصيلة نقاشات نوعية من قبل المفكرين والمنظرين في كافة انحاء القارة الاوربية واستمرت على مدار أربعة قرون قبل اندلاع الثورة الفرنسية،[3] وتجمعت خلاصة الأفكار بما يخص الفلسفة السياسية الجديدة للدولة، والمجتمع المدني، في نظريات وأفكار من أطلق عليهم مفكرو العقد الاجتماعي (ميكافيلي، هوبز، لوك، وروسو) [4]


تلخصت أفكار ميكافيلي (1496-1527) في هدم فكرة التفويض الإلهي للحاكم، واقامة السياسة على أسس دنيوية وموضوعية خالصة، والتأسيس لفكرة العقد الاجتماعي. وفي إطار حديث ميكافيلي عن المجتمع المدني أكد على أهمية الالتزام بالصالح العام بين أعضاء المجتمع؛ فبدون عادات الفضيلة المدنية التي تحض الناس على إعلاء الصالح العام، سيكون المجتمع مهددا بالانهيار بفعل ما هو متأصل في الجنس البشري من أنانية طبيعية. 

في حين رفض توماس هوبز (1588-1679) نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ (أي أنه نادى بعلمانية الدولة وانبثاقها من المجتمع المدني بالتعاقد والتوافق)، فالدولة تدين في وجودها وشرعيتها إلى إرادة المجتمع. فهي -أي الدولة- إنسان موضوعي صنعه الإنسان، وهذا الإنسان الصانع هو المجتمع المدني. رفض هوبز النظريات التي قالت بوجود المجتمع المدني قبل تنظيم الدولة، لأن الدولة في نظره انتصار على الطبيعة، وزوالها يؤدي بالضرورة إلى زوال المجتمع أو تفككه. والمجتمع هو ميدان الحياة العمومية والمصالح الشخصية، التي لا يحق للدولة أن تتدخل فيها، وبذلك أقام هوبز التفريقَ النظريَّ بين المجال العام والمجال الخاص. 

أما جون لوك (1632-1704) أعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. وغاية التعاقد الاجتماعي لديه هو الحفاظ على الأرواح والملكية الخاصة، وإلغاء النظام الملكيّ المطلق (أو الفردية الأوتوقراطية \الدينية\) التي لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدنيّ الذي ينطلق من مبدأ الإرادة الحرّة. واعتبر لوك أنا المبدأ الكفيل بتأسيس المجتمع المدني وتنظيمه وتجديد العلاقة بين السلطات المختلفة فيه، هو مبدأ اعتماد الأكثرية، فأساس المجتمع المدني هو الموافقة من جانب غالبية الناس لتشكيل كيان سياسي واحد، ومن هنا لابد من ظهور مبدأ الأكثرية الذي يعد شرطا أساسيا لقيام العقد الاجتماعي وشرطا أساسيا لكل حكومة شرعية بذلك يؤكد جون لوك الدلالة الليبرالية لشرعية السلطة السياسية.

بينما حاول جان جاك روسو (1712-1778) البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ، هي (سلطةُ الشعب). ومأثرةُ روسو الخالدة تأكيده على شرط التلازم النسبيّ بين الحريّة والمُساواة، فلا مكان في عقده الاجتماعيّ لمواطنٍ غنيّ إلى درجةٍ تُمكنهُ أن يشتري الآخر، وفقيرٍ إلى درجةٍ يضطرُ فيها إلى بيعِ نفسه، لقد أدخل روسو عنصر المُساواةِ إلى المجتمع المدنيّ، وبذلك جعل العدالةَ الاجتماعيّة شرطَا للحريةَ.[5]


أبرز المساهمات للمفكرين التي أطاحت بالنظام القديم وبلورت الفكرَ في المجتمع الحديث بكليته [6]

نيقولا ميكافيللي

(1469-1527)

حاولَ البرهنةَ على أنّ البواعث المُحركة لنشاط البشر هي الأنانيةُ والمصالح المادية، فالفرديّة والمصلحة عنده هما أساسُ الطبيعةِ الإنسانية.

نيقولا كوبرنيكس

(1473-1532)

أسهمتْ في تحطيمِ الأيديولوجية اللاهوتية ووضعت الأسسَ الأولى لبداية تاريخ تحرّر العلوم الطبيعية من اللاهوت.

مارتن لوثر

(1483-1546)

أعلن مطالبته بالإصلاح الديني، وأنكر دور الكنيسة ورجال الدين في الوساطة بين الإنسان والله. وكان لهذا دورٌ هامٌّ في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة، وتعميق تطوّر مفاهيم المجتمع المدنيّ والمُثل السياسية البورجوازية والدولةِ الديمقراطية.

فرنسيس بيكون

(1561-1626)

دعا إلى إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها، وإلى النزعة الشّكيّة فيما يتعلق بكلِّ علمٍ سابق كخطوةٍ أولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من الأوهام.

ديكارت

(1596-1650)

ارتكز المذهب العقلاني عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية

توماس هوبز

(1588-1679)

رفض نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ، بمعنى ان الدولة تدين في شرعيتها إلى إرادة المجتمع.

جون لوك

(1632-1704)

رفض مفاهيم المجتمع الإقطاعي، وأعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. والغرض من التعاقد الاجتماعي المحافظة على الأرواح والملكية الخاصة وإلغاء النظام الملكيّ المطلق

شارل مونتسكيو

(1689-1755)

أكدّ على أن الضمانة الأساسية للحرية تكمن في المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدها بالحدّ من العسف وكبحه، إلى جانب رفضه للحكم المطلق الذي اعتبره شكلًا مناقضًا للطبيعة الإنسانية، ومناقضًا للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها، ففي “مجال العقوبات، يضع مونتسكيو حدًا فاصلًا بين الفعل وبين نمط التفكير، فالعِقاب يُستحق فقط على الأفعال لا على الأفكار، إذ أن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرّية”

جان جاك روسو

(1712-1778)

حاول البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ؛ هي (سلطةُ الشعب)

آدم سميث

(1723-1790)

أول من دشّن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدنيّ، من خلال تأكيده على مفهومين: الأمة بدل الدولة، والغنى (أو الثروة) بدل السياسة، بما يعني أن المجتمع المدنيّ هو مجتمع للمبادلات التجارية، فالعمليات الإنتاجية والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدريجية عن حكومة نظامية تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها في المجال الداخلي، والتي يقتصر دورها على المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، والقيام بالمشاريع الكبرى التي تعجز عنها المبادرة الخاصة.


اما على المستوى العملي؛ تَجسّد التعبير السياسيّ والقانونيّ الأوّل للمجتمع المدنيّ بشكل واضح وجلّي في إعلان “حقوق الإنسان والمواطن” أعقاب الثورة الفرنسية 1789، حيث كان هذا الإعلان بمثابة التحول الفعلي إلى فكرة المواطنةِ بمفهومها الحديث[7]. وكان هذا الإعلان ردة فعل واضحة عن انتهاكاتُ حقوقِ الإنسانِ التي كانت سائدةً قُبيل الثورة الفرنسيّة. تميّزت هذه الوثيقةُ الفرنسيّة عن غيرها مما سبقها من الدول الغربية، وخصوصًا انجلترا والولايات المتحدة الأمريكيّة بأنها أكثر شموليّةً ووضوحًا بالنسبة لحماية حقوق الإنسان، كما أنها لم تقتصر على حماية المواطن الفرنسيّ فقط، بل اتسع نطاقها لتشمل جميع الناس؛ وركّزت مقدمةُ الإعلان على ضرورة تعريف الإنسانِ بحقوقهِ وتذكيرهِ بها لأنّ جهل حقوقِ إنسان أو نِسيانها أو ازدرائها هي الأسباب الوحيدة للمصائبِ العامة.[8]


ويُمكن القول إن مفهومَ المجتمع المدنيّ في نقاشات مُفكري عصر النهضة تأسسَ من خلال التركيز على ثلاثةِ قيمٍ رئيسيّةٍ؛ ستشكّل فيما بعد ركائز المجتمع المدنيّ، وهي[9]

  • قيمة الفرد المواطن باعتبارها قيمةً عليا مطلقةً ومقدسةً ولها حقوقٌ مصانةٌ، خاصةً حقّ الحياة وحرمة الجسد والملكيّة، وحريّة التفكير. وعليه واجبات في مقابل الحاكم، وبهذا المعنى أصبح المجتمع المدنيّ تعبيرًا عن وعي الفرد بحقوقه في مواجهة السلطة.
  • قيمة المجتمع المتضامن الذي يتميز بقدرة أفراده على الالتزام بالمستلزمات الأخلاقيّة والقانونيّة الأساسيّة لتأسيس الجماعات المدنيّة. وتحوّلها لقوةٍ فاعلةٍ تتحرك وفق مصالحها في مقابل الحاكم أو السلطة، وتَمظهُرِها كقوةٍ لا يمكن تخطّيها في وقتٍ لاحقٍ من تطوّر النظريّة السياسيّة.
  • قيمة الدولة ذات السيادة، والمستمِدة شرعيَتها في الإدارة والحكم من الشعب، واعتبر السلطة والحقوق الناتجة عنها حقوقًا مشروعةً ومقبولةً. 

مقدمة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789

“إن ممثلي شعب فرنسا مشكلين في هيئة جمعية وطنية قد توضح لهم أن الجهل والإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الرئيسة للمصائب العامة وفساد الحكومات وقد قرروا ان يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها). لقد عول الشعب الفرنسي كثيراً على الثورة التي حملت لواء الحرية والمساواة بين أفراد المجتمع، وجاءت الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الجمعية الوطنية ملبية تماماً لأهداف ورغبات الشعب، فقد كان الشعار الذي رفعته الثورة (الحرية العدالة، الإخاء)، كافي لتحقيق المساواة والرفاهية للشعب، ولم يبق إلا أن تشرع الجمعية الدستور والقوانين التي تحدد حقوق المواطن وتصونها وتحميها من جور السلطة”.


[1]  مصطفى صفوان. (2012). لماذا العرب ليسوا احرارا. بيروت: دار الساقي.

[2] الثورة الصناعية الأولى: بدأت في نهاية القرن الثامن عشر في بريطانيا بعد اكتشاف الألة البخارية، والتحول من الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الآلي، وما لبث أن امتد ليشمل كل أوربا. 

[3] يمكن الإطلاع على ملخص لأهم أفكار الفلاسفة والمنظرين التي أسهمت كتاباتهم بالنهضة الاوربية في الشكل بنهاية هذه الفقرة. 

[4] مفكرو العقد الاجتماعي: وهم المفكرين الذين ناقشوا العلاقة بين الفرد والسلطة في عصر النهضة الاوربية من ناحية تنازل الفرد عن بعض حريته للدولة التي سوف تضطلع بدورها بتولي حماية بقية حقوقه. 

[5]  شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[6] شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[7]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

[8]  ميريام أشقر. (د.ت.) إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، الموسوعة السياسية.

[9]  نبراس المعموري. (18 01, 2021) إسهامات المجتمع المدني في العقد الاجتماعي، صحيفة الزمان.


اترك تعليق

مشاركة الموضوع

ثانيًا: مفهومِ المجتمع المدنيّ لدى مفكري العقد الاجتماعي، والثورة الفرنسيّة

أو نسخ الرابط