رابعًا: المجتمع المدنيّ لدى كلّ من غرامشي وألتوسير والثورة البولنديّة

التطوّر الأهمّ والحاسم في القرن العشرين، والذي أدخل مفهوم المجتمع المدنيّ في صلب النقاش العام بوصفه “المجال الطبيعيّ لبناء الهيمنة الإيديولوجيّة المضادة لهيمنة الدولة[1]“. كان في أفكار أنطونيو غرامشي (1891-1937) المناضل السياسيّ والمفكر الاقتصاديّ الإيطاليّ الذي سُجن خلال أعمال مقاومة النظام الفاشيّ في إيطاليا، وشكّلت رسائله من السجن أحد كلاسيكيات الأدب اليساريّ المقاومِ. 

طوّر غرامشي المفهوم الماركسي المبسّط للإيديولوجيا -بصفتها وعيًا زائفًا- وجزء من البنية الفوقيّة[2]، إذ ميّز داخلها بين مستويين كبيرين: أوّلهما: المجتمع المدنيّ بالمعنى المتعارف عليه، وثانيهما: مستوى المجتمع السياسيّ أو الدولة، وكلاهما غير منفصلان وإنّما هما في علاقةٍ جدليّةٍ، تتخذ أشكالًا مختلفةً بحسب طبيعة الصراع وطبيعة السلطة. وبذلك وضع المجتمع المدنيّ مقابل الدولة، وناقش العلاقة بينهما، كما ناقش بُنّية المجتمع المدنيّ، وكذلك الفاعليّة لمنظمات المجتمع المدنيّ. 

فالمجتمع المدنيّ لديه هو هذا التركيب المتشابك والمعقد والمتسع الذي يلتقي فيه نسيجٌ متداخلٌ من التنظيمات الأيديولوجيا[3]، ويتحددُ بثنائيّة العلاقةِ مع الدولةِ بوصفهِ أداةَ سيطرةٍ واحتواء، والمجتمع بما يحويه من إرادة تحرّرٍ، واختلافٍ، وتعدّدٍ، واستقلالٍ.[4]بالمختصر حدّد غرامشي الفرق بين المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ في كون الأوّل مجال الإكراه، فيما المجتمع المدنيّ هو مجال للهيمنة المضّادة التي تمارسها السلطة.


ويشير غرامشي إلى أن العامل الحاسم في إنجاح أو إفشال الحراك الاجتماعي على المدى الاستراتيجي، هو الشرط الذاتيّ المتمثل في صنع ذاتية مجتمع المواطنين الأحرار من خلالِ المجتمع المدنيّ والمنظمات المستقلة، وبدون ذلك لن يكون ممكنًا للتغيير في المجتمع أن يحصل، بل بدلاً من ذلك ستظهر مروحةٌ واسعةٌ وغايةٌ في التنوع من الأعراض المرضية (أو المسوخ في ترجمات أخرى)، وعبارة غرامشي -بلغته الملغزة تلافيًا للرقيب عندما كان في السجن- هي: “إذا كان القديم قد مات والجديد ليس جاهزًا بعد، سيكون لدينا أعراض غاية في التنوع”. مفهوم الأعراض سيكون دلاليًّا ومحوريًّا ويُستعاد في سياق حراكات الربيع العربي في عمل جلبير أشقر: انتكاسة الانتفاضات العربية- أعراض مرضية، حيث يرى أن انتشار الأصولية والعودة الدموية للحكم العسكري والنظام القديم في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا واليمن، من حيث هي الأعراض الغرامشية، الناتجة عن عدم وجود المجتمع المدنيّ، المؤهّل لخلق الوحدة الاجتماعية بين النشطاء السياسيين والمثقفين وبين جمهرة المواطنين ضمن إطارٍ من الحريات المدنيّة، بما يسمح للمجتمع المدنيّ بخوض حرب مواقع على المدى الطويل ضد الهيمنة الأيديولوجية للأفكار التي يروج لها النظام السياسي للدولة، ونشر القيم التّقدميّة والإنسانيّة”.[5]


طوّر لويس ألتوسير[6](1918-1990) مفهوم الأيديولوجيا لدى غرامشي، مستلهمًا النضالية الكامنة والخصوبة النظرية للمفهوم، ولكن بالبناء على النتائج السياسية للتحليل النفسي عند فرويد، مؤسسًا لفهمِ تأثير الايديولوجيا على اللاوعي الفردي، وكيف يتمفصل مع الأجهزة الأيديولوجية للدولة كالمدرسة والسجن والكنيسة… إلخ. 

وتَركّزَ عمله في جانبه المتعلق بالنظرية السياسية، على مسألة ما يفصل بين الوعي المطابق للواقع (الذي تجده عند المشتغلين بالثقافة)، والوعي الموجود عند كثيرٍ من عامةِ المواطنين، الذي تغلب عليه المبالغات وعدم الواقعية، والتأثرُ بالخطابات السياسية، والتبعية للأيدولوجيات المهيمنة، أي مسألة التمييز بين العلم والأيديولوجيا. يمكن لكثير من الناس، برأي ألتوسير، حتى لو كانوا غير مشتغلين بالثقافة امتلاك هذا التمييز، ولكنه يشدد على فكرة ليس كلّ الناس تدرك ذلك. 

وبالنسبة لألتوسير فالهيمنة المضادة المطلوب أن تحققها أي أيديولوجيا تقدمية، تبدأ من ممارسة التقليد التنويري المتعلق بنشر الوعي بالايديولوجيا أو نشر التمييز بين ما هو (علمي\مطابق للواقع)، وما هو (أيديولوجي\سياسي)، بحيث يتمكن مثلًا الإنسان السوري أو الليبي المتأثر بدعاية الأنظمة أو الحركات المتطرّفة، من إدراك أنه وبينما أنّ المربع مربع والمستطيل مستطيل و1+1=2 فإن مفاهيم مثل الوطن العربيّ أو الأمّة الإسلاميّة أو أنّ الإرادة الإلهيّة تدعم الإرهاب والتمييز بين الناس، وما شابهها من قناعات رائجةٍ ومنتشرةٍ، هي مفاهيمُ ايديولوجية تعكس هيمنةَ أصحاب المصالح الطبقيّة والسلطويّة، على أنماط تفكير المواطنين وخياراتهم.


يمكن القول من الاستعراض الموجز لأفكار كلّ من غرامشي وألتوسير التالي: 

  • بتأثيرِ أفكارِ ومناقشاتِ غرامشي، فهِمت مجتمعاتُ النشطاء العمل التنظيميّ المستقل عن المنظمات السياسيّة، والأثرَ البعيدَ للمواصلةِ بقوةٍ في العمل المدنيّ على الأرض في المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة، والبعد الأيديولوجي البنّاء لهذه الممارسة.
  • قد لا يرى كثيرون في المنظماتِ غير الحكومية وبيروقراطيتها الشديدة وتبعيتها للأجنداتِ الحكوميّة اليوم، مدعاةً للتفاؤل، ولكن الدرس الغرامشيّ يشير إلى أنّ الهيمنة الأيديولوجيّة للمُثُلِ الإنسانيّة تراكمٌ تاريخيّ يتأثرُ بكلّ العوامل القائمة، وأنّ تفاؤل الإرادة المفترض به أن يكمّل تشاؤمَ العقل، هو بالنهاية مسألةُ حربِ المواقعِ تلك، أيّ الرهان على العمل بصورةٍ تدعم الهيمنة المضادة التي يعمل المجتمع المدنيّ على بنائها بالشكل الذي يتيح إمكانية التغيير.

أعادت التجربة البولنديّة في أواخر الثمانينات إحياء المجتمع المدنيّ في أوربا كممارسةٍ عمليّةٍ ضد دكتاتوريّة السلطة، إذا أسهمت جملة الظروف الاقتصاديّة السياسيّة في التحشيدِ من قبل النقاباتِ بمواجهة وحشية السلطة من جهة، وتجاه مطالب بتغيير النظام السياسيّ باتجاهٍ أكثر ديموقراطيّة ومشاركة، وتغير النمط الاقتصاديّ المُتبنى، وهو ما كان.


الثورة البولندية 1988:

بدأ تراجع النظام البولندي مع لحظة بداية ارتكابه ممارسات وحشية لم تكن خاضعة للمساءلة، هو ما تمثل رمزياً في مقتل جريجوز بيرميك الشاعر ذو التسعة عشر ربيعاً، والذي قتلته قوات البوليس بوحشة في عام 1983، والتي مهدت مع أزمات التدهور المستمر في وسائل المعيشة، والصعوبات الاقتصادية والبطالة، والتفاوت ما بين السلطة والشعب، والفجوة بين الأجيال، والرقابة. الى حركة احتجاجية بعد ستة أعوام. حيث أطلقت النقابات العمالية المدعمة بالمفكرين اليساريين الشرارة الاولى في التغيير عام 1988، والتي تعالت أصواتهم بالسخط على الاوضاع في ذلك الحين بالنيابة عن هؤلاء المعدمين.
وبفعل الإضرابات التي اجتاحت بولندا، اضطر الحزب الشيوعي البولندي الحاكم إلى عقد محادثات “المائدة المستديرة” مع قادة حركة “التضامن” العمالية أسفرت عن إجراء انتخابات حرة، وتشكيل أول حكومة غير شيوعية في أوروبا الشرقية، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة والفصل بين فروعها.

(منتدى البدائل العربي، المعهد البولندي للشؤون الدولية، 2018)


كخلاصاتٍ سريعة: 

  • المجتمع المدنيّ صيرورة فكريّة تاريخيّة تكوّنت عبر أفكار الفلاسفة والمنظرين السياسيين الذين أضافوا للنظريّة السياسية مفهوم الدولة الحديثة، وأيضًا بفضلِ حراكاتِ وثوراتِ الشعوب التي شكّلت اختبارًا عمليًّا لقوة المجتمع المدنيّ كقوةٍ مجتمعيّةٍ في مقابل السلطة، بل يمكن اعتبار هذه الحراكات هي الأساسَ الأوّل في التغيير، وبناءِ النظام والمفاهيمِ الجديدة. فالمجتمع المدنيّ -بحسب بشارة- هو صيرورةٌ فكريّةٌ وتاريخيّةٌ نحو المواطنة والديموقراطية عبر مجموعةٍ من التمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين المجتمع والدولة.[7]
  • يرتبط المجتمع المدني بالدولة بعلاقة جدلية من حيث اسبقية الوجود والتأثير، إلا أنه عملياً يمكن القول إن ظهور المجتمع المدنيّ الذي نعرفه؛ ارتبط ظهوره مع وجود الدولة بمفهومها الحديث القائمِ على التعاقد بين مجموع المواطنين، وهذا يعني أنّ الدولة هي الشرطُ الضروريّ للمجتمع المدنيّ كونها تعطي صفة المواطنة لأفرادها وهي التي تشكل جوهر المجتمع المدني. وبدونها -أي الدولة- يكون الشكل المتخيل على المستوى النظري هو مجتمعٌ يستند إلى العلاقات المولودة (العائلة، القوميّة، الطائفة، الدين) على حساب العلاقات التعاقديّة القائمة على المصلحة. ولعل الأمرَ الأكثر إثارةً والذي يجب أن يشار إليه في هذا السياق إلى أنّه في المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبداديّة حيثما يتحوّل دور الدولة من رعاية المجتمع إلى رعاية النخبة الحاكمة، وما يفرضه ذلك من تقييد للحريات، وسحق للحقوق السياسية والمدنية، وتقييد لمساحات عمل المجتمع المدنيّ، يكون الشكل الأبرز لتنظيم علاقات الأفراد في مواجهة تغوّلِ السلطة؛ هو اللجوء إلى البنى التقليديّة، أيّ العلاقات الوشائجيّة المولودة (كالعائلة أو القبيلة، الدين أو الطائفة، أو القوميّة)، بما تشكله من حلقات الأمان الوحيدة المتوافرة للأفراد.
  • وبالتالي فإن ثلاثيّة: الدولة كسلطةٍ قهريّة، الفرد كمواطنٍ حرّ، والمجتمع كقوّةٍ تضامنيّة فاعلة، هي ركائز المجتمع المدنيّ الذي يشغل الوسط بينها، ويعمل على خلق مستوى من التوازن؛ بحيث لا يطغى أيٌّ منها على الأخر، وبطبيعة الحال ألا يطغى أيٌّ منهما على حرّيات وحقوق الفرد. 
  • لذلك تختلف الأدوار التي يضطلع بها المجتمع المدنيّ من مجتمعٍ إلى آخر بحسب مؤشرين اثنين يؤشران إلى درجة تطوّر المجتمع: الأوّل من ناحية مستوى ترسّخ مفهوم المواطنة واقتصاد السوق وقدرة الأخير على إنتاج نفسه خارج الدولة. والعامل الثاني مدى سيطرة العلاقات التعاقدية بين الأفراد، وتفوّقها على الانتماءات الوشائجية[8]
  • يحتلّ المجتمع المدنيّ مكان الوسط بين ثالوث (الفرد والجماعة والدولة)، وهذا يعني أنّه لا يقوم بذاته، بل على العكس تماماً؛ فهو يعتمد على هذه الأشكال الثلاثة من الروابط ويتغذى منها بقدر ما يستقل عنها أو يتواجه معها. وبالتالي ليس له أن يدّعي الحلول محلّها أو إلغائها. وبهذا المعنى فإنّ المجتمع المدنيّ يعمل على تشكيل قيمٍ وقوى ومؤسساتٍ وحركاتٍ تحُول دون سيطرة أحد عناصره (أي السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي) عليه، بحيث يكون دومًا أقوى من أيّة سلطة فيه[9].
  • المجتمع المدنيّ يشكّل أداةَ إصلاحٍ سياسيّ بدائليّ مضّادٍ للشموليّة، ورديفٍ للمجتمعات المحليّة، فهو من دون دوره السياسيّ وخارج سياق المعركة من أجل الديموقراطية، هو عملية إجهاض للمعنى الذي وجد من أجله تاريخيًّا، وإجهاض لطاقته النقديّة، فضلًا عن نزع قدرته التفسيريّة على فهم البنى الاجتماعيّة والسياسيّة.[10]
  • وفي الوقت عينه أهمية المجتمع المدنيّ “لا يمكن اختزالها في الحياة السياسيّة، ولكنّه غنيّ بجميع الأنشطة الاقتصاديّة والدينيّة والثقافيّة.[11]


[1] الهيمنة هي سيطرةُ الطبقةِ الحاكمةِ على المجتمع، وصناعة الأيديولوجيّة السائدة التي تعتبر صالحةً لكل مكان وزمان، وتبرر الوضع الراهن الاجتماعيّ، السياسيّ والاقتصاديّ كأنّه الوضع الطبيعيّ والحتمي.

[2] ميز ماركس بين بنيتين في المجتمع: الأوّلى تحتيّة: تضمّ قوى وعلاقات الإنتاج، تقسيم العمل، وعلاقات الملكية التي يدخلها الناس لإنتاج ضروريات الحياة وكمالياتها. والثانية هي البنية الفوقيّة فهي تشتمل على الثقافة، بنى السلطة السياسيّة، الأدوار الاجتماعيّة، الطقوس، الدولة والمؤسسات. وبحسب ماركس تحدد البنية التحتيّة البنية الفوقيّة، لكن علاقتها ليست سببيّة تمامًا، لأن البنية الفوقيّة غالبًا ما تؤثر على البنية التحتيّة، إلّا أن تأثير البنية التحتيّة هو الأهم. 
قدّم ماركس (1818-1883) تعريفه للمجتمع المدنيّ على أنّه “حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصاديّة البرجوازيّة، فالمجتمع المدنيّ عنده هو المجتمع البرجوازي، انه فضاء الصراع الطبقيّ، وهو بالتالي الجذر الذي تمخضت عنه الدولة ومؤسساتها المختلفة.  

[3] الأيديولوجيا تعني العقلية أو المعتقد، وبالفكر الماركسيّ تحمل الايديولوجيا معنى سلبيًّا بمعنى اللامفكَر فيه أو نظام المعتقدات القادم إلينا من الموروث والمجتمع ونقبله دون أن نخضعه للمحاكمة العقلية. 

[4] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. ص49.

[5]   جلبير أشقر. (2016). انتكاسة الانتفاضة العربيةأعراض مرضية. بيروت: دار الساقي.

[6] – لويس بيير ألتوسير: فيلسوف فرنسي ولد في الجزائر (1918-1990) ويعد من أهم منظري الماركسية في القرن العشرين. 

[7]  عزمي بشارة.  (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص8 

[8]  عزمي بشارة (2011) محاضرة عن المجتمع المدني في الوطن العربي.
يقصد بالانتماءات الوشائجية: يقصد بها هي الانتماءات ما دون وطنية، أي الانتماء للعشيرة، القبيلة، الدين، الطائفة، القومية. 

[9] علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، ص 134.

[10] عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، 2012، صفحة 9.

[11]  زهير الخويلدي (2020) دولة القانون والمجتمع المدني بين هيجل وماركس.

اترك تعليق

مشاركة الموضوع

رابعًا: المجتمع المدنيّ لدى كلّ من غرامشي وألتوسير والثورة البولنديّة

أو نسخ الرابط