أولًا: المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية القديمة

نظر أفلاطون الى المجتمع المدني من خلال الدولة بصفتها تجسيدا للحياة الأخلاقية، حيث عدَّ القانون وازع أو ضمير أخلاقي للمواطن. ويتأسس المجتمع المدني لديه على الاعتراف بالتنوع والفهم العميق لتقسيم العمل، فهو مثل جسم الإنسان أو طاقم السفينة يتألف من عناصر مختلفة لها مهارات متنوعة وتؤدي مهمات مختلفة. وهذا التقسيم القائم على الاستعدادات الطبيعية يقع في قلب نظرية أفلاطون عن العدالة والسياسة؛ فلا يتحقق التوازن والاستقرار إلا حين يقوم كل فرد بالوظيفة المنوطة به. فإذا كانت العدالة توازناً وصحة، فإن الظلم تنازع والتحلل فوضى، ويمكن أن تعزى أعمال الشغب كلها إلى عجز الأجزاء المكونة للدولة عن أداء أدوارها بالاستناد إلى طبيعة وظائفها.

أما السبب الرئيسي في دمار المجتمع -بحسب أفلاطون- فهو المصالح الخاصة والأنانية، التي يمكن أن تفتت الروابط التي تشد مفاصل المجتمع المدني معاً، فالغنى ينتج الرفاهية والعطالة، والفقر ينتج معايير واطئة للمعرفة والعمل والسلوك. بهذا المعنى (الغنى والفقر) كلاهما نزعتان هدامتان. ولا شيء أخطر على وحدة المجتمع وتماسكه، في نظر أفلاطون، من الفوضى التي تولدها مراكز ثقل مختلفة تدور حول الاهتمام الأناني بالذات. والامر ذاته ينطبق على الطموح والجشع والتخاصم والتنافس التي تشكل تهديدات ثابتة للمجتمع المدني، لأنه من الصعب التحكم في الأهواء الخاصة بعقوبات خارجية، في حال غياب الالتزامات المشتركة. فالمجتمع المدني بحسب أفلاطون يعتمد في النهاية على أنماط ثابتة من الفكر، لا على العقوبات والقسر. فالمجتمع المدني يجمع الحقيقة والخير والجمال، مع المعرفة والقوة والدولة.


شاطر ارسطو أفلاطون فهمه لكون الصلات الإنسانية تتجذر في الحاجة المادية، وتقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني، الذي هو عبارة عن جماعة منظمة سياسياً. لكنه انتقد فكرة الوحدة بمعنى التجانس التي نادى بها أفلاطون، ورأى أن المدينة هي المقولة الوحيدة التي يمكن ضمنها أن نفهم الحياة المشتركة للمواطنين خارج العائلة. فالمدينة تقتضي بالضرورة تفاوتاً في القدرات بين أعضائها، الأمر الذي يمكّنهم من أن يخدموا بعضهم بعضاً، ويحققوا حياة أسمى وأفضل عبر تبادل خدماتهم المختلفة. حيث جاء في كتابه “السياسة” قوله: “أولاً، تبين لنا الملاحظة أن كل مدينة أو دولة إنما هي ضرب في ضروب الاجتماع؛ وتبين ثانياً، أن كل الجماعات تتأسس من أجل تحقيق نوع من الخير؛ ذلك أن الرجال جميعهم يمارسون أفعالهم بغرض تحقيق ما هو خير من وجهة نظرهم”. والغاية من المدينة حسب ارسطو هو العيش بصورة جيدة، لا مجرد العيش، والدولة توجد من أجل تعزيز المصلحة العامة؛ فهي تجمّع فريد في نوعه.

بصورة مختصرة نظر الفكر الكلاسيكي اليوناني إلى المجتمع المدني من زاويتين مختلفتين لكنهما متكاملتان: الأولى سياسية مفادها اعتبار المجتمع المدني جماعة سياسية منظمة، والثانية أخلاقية المجتمع المدني كونه جماعة تنظمها القيم الأخلاقية لا سيما العدالة بصفتها أم الفضائل، باشتمالها على الحرية والمساواة. ولعل هذه المقولات والأفكار والمفاهيم التي تمت مناقشتها في الحضارة اليونانية ومن ثم الرومانية، سوف تكون حاضرة في التفكير الجمعي العام لدى فلاسفة ومفكري عصر النهضة الاوربية، الذين أعادوا إنتاجها نقديا وقدموا فهما جديدا لها في ضوء النظام السياسي الجديد[1]، وهو ما سوف يتم استعراضه في الفقرات اللاحقة.


[1] جاد الكريم جباعي (2020) محاضرة حول مفهوم المجتمع المدني ضمن المساق التعليمي: المجتمع المدني-المجتمع السياسي و”الدولة الوطنية”، همزة وصل.

اترك تعليق

مشاركة الموضوع

أولًا: المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية القديمة

أو نسخ الرابط