ثالثًا: المجتمع المدنيّ لدى هيغل، وثورات الشعوب الأوربيّة

التطوّر المهم الثاني كان في فكر الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل[1] الذي نَقد مفكريّ العقد الاجتماعيّ، ففي حين وضع مفكرو العقد الاجتماعيّ الدولةَ في خدمة المجتمع المدنيّ، جاء هيغل بفلسفة سياسيّة اعتبرتْ المجتمع المدنيّ مرحلةً من مراحلِ الدولة، وجعل المجتمع المدنيّ في خدمة الدولة، ودعا الأفراد إلى التضحيّة بأنفسهم من أجل بقاء واستمرار الدولة. ورسمَ العلاقةَ بينهما أي المجتمع والدولة لا كمجردِ علاقةِ نفيٍّ وإثبات، وإنّما علاقةٌ يتحوّل فيها كلّ من طرفيها إلى مركّب مكوّن للطرف الآخر.[2]

فالمجتمع المدنيّ -بحسب هيغل- هو المجال الحيويُّ لرغبةِ الإنسان في الاعتراف بالذات، حيث يكون الفردُ حُرًّا، وتكون إرادته مرتهنةً جزئيًا بإرادة الدولة. والتعاقدُ عند هيغل يُنشئ المجتمع المدنيّ الذي يتكوّن من أفراد مستقلين، لكلّ منهم ذاتٌ حرّة لا تَحدُّها إلا حريّة الذات الأخرى. وهذا الطرح شكّلَ أهميةً كبيرةً لأنّه يرى أنّ تفاعل كلّ إنسانٍ مع الآخر هو الذي يجعله يدرك العالم، وبالتالي أبرز أهمية التفاعل الاجتماعيّ، وطرح فكرةَ أن التشابه في مصالح مجموعةٍ من الأفراد تدفع بهم لأن ينتظموا في تنظيمات اجتماعيّة، لتكريس التعاون والتضامن.

فالمجتمع المدنيّ بالنتيجة هو مجتمعُ الحاجة، يتحرّك فيه الأفراد لإشباع حاجاتهم بكلّ حريّة، وهو يتوسط الأسرة والدولة، ويقوم بوظيفة الوساطةِ بين الفرد والجماعة، وتأتي الدولة لتوفّق بين الجزئيّة والكليّة. فأساسُ المجتمع المدنيّ هو: عدم قدرة أيّ فرد على الاكتفاء بذاته، ثم علاقات الاعتماد المتبادل، ثم تلازم المجتمع المدنيّ مع الدولة[3]


حاول هيجل من خلال نظريته عن المجتمع المدنيّ تخفيفَ الصراعات الاجتماعيّة عبر رؤيةٍ تقوم على التوازن بين الملكيّة الخاصة والأنانية الفرديّة من جهة، وإشكاليةِ الإفقار والاغتراب من جهةٍ أخرى، من دون التنازل عن حريّة الفرد وحقّه في التعاقد.

بعد وفاة هيغل بعشرة أعوام اندلعت ثوراتُ ما سُميّ “ربيع الشعوب الأوربيّة” 1848 في أكثر من خمسينَ بلدًا أوربيًّا اختلفت مطالبها بحسب الظرف الذي تعيشه كلّ دولةٍ وتحتَ أيّ سلطة، لكن ما كان ثابتًا أن معظم الثوراتِ كانت تفرض نفسها في مواجهة السلطةِ التي لم تكن تعبّر عن طموحاتِ ومطالبِ الأفراد، وراكمت الفكر الديموقراطي كتجربةٍ عمليّةٍ تعيشها وتختبرها الشعوب، وأَسست في الوقت عينه لدور مجتمعٍ مدنيٍّ فاعلٍ ونشطٍ.


ثورات الشعوب الأوربية 1848:

بدأت الانتفاضات بثورة أهالي باليرمو الإيطاليّة على حكم آل بوربون في ١٢ كانون الأول. ولحقتْ بها باريس بعد شهر، وكرّت المسبحة فلحقتْها ميلانو والبندقيّة ونابولي وفيينا وبراغ وبودابست وكراكاو وبرلين وكولن. تأثّر بها أكثر من خمسين بلدًا وصولًا إلى البرازيل. تعدّدت العوامل التي أطلقت الثورات بقدْر ما تعدّدت الأهداف. أبرز عوامل تلك الانتفاضات النتائج الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للثورات الصناعيّة – من بطالة وفقر وهجرة مدينيّة وظروف عمل قاهرة – والتوسّع الرأسماليّ الذي أخذ ينخر بنية الأنظمة الملكيّة الاستبداديّة ويطرح قضيّة توحيد الأسواق المحلّيّة.
الثورات في وجهٍ منها ثوراتٌ ديمقراطية تطالب بالملكيّات الدستوريّة أو بإعلان الجمهوريّة واعتماد الاقتراع العامّ وتأمين حريّة الصحافة والرأي والاجتماع. والثورات في وجهٍ آخر ثورات تحرّر وطنيّ ووحدةٍ قوميّة. عرفت المقاطعات الإيطاليّة والإمارات الألمانيّة والمجر وسويسرا وأيرلندا نزعات انفصاليّة كما في صقلية ضدّ حكم أسرة آل بوربون وفي المجر الساعية إلى الانفصال عن النمسا. في المقابل، جاءت الثورات في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا في سياق النضال من أجل تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطاليّة بتجميع عدّة ممالك وإماراتٍ ومقاطعات. في أمكنةٍ أخرى.
في الآن ذاته، اتّخذت الحركات الاجتماعيّة طابعًا لا يخلو من الحِدّة. انتشرت الانتفاضات الفلاحيّة المعادية للإقطاع ونجحت في إلغاء القنانة في النمسا وبروسيا في أواسط القرن. وأخيرًا ليس آخرًا قامت انتفاضاتٌ عمّاليّة في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، عبّرت عن ردود الفعل الأولى على التصنيع والرأسماليّة، وخرجتْ من صلبها تيّارات عماليّةٌ واشتراكيّةٌ لم تكن لتكتفي بالمطالبة بتحسين مستوى معيشة العمّال وشروط عملهم، بل دعتْ إلى تنظيمٍ اجتماعيٍّ جديد قائم على الحريّة والمساواة.

(طرابلسي، 2018)


[1] جورج فريدريش هيغل (1770 – 1831) فيلسوف ألماني من أبرز فلاسفة المدرسة المثالية. 

[2]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 61.

[3] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 49-48

اترك تعليق

مشاركة الموضوع

ثالثًا: المجتمع المدنيّ لدى هيغل، وثورات الشعوب الأوربيّة

أو نسخ الرابط