بناء هويّة المؤسسة:

وتعتبر بمثابة خارطة الطريق التي سوف تحدّد وتركّز أنشطة المنظمة ومساحات عملها وأنشطتها، وتساعدها على العمل بشكل ممنهج نحو التغيير الإيجابي الأمثل الذي وُجدت من أجله. عادةً يتمّ بناء هويّة المؤسسةِ وفق منهجيّةٍ محدّدةٍ يُطلق عليها مصطلح “الخطة الاستراتيجية” والتي هي عبارة عن خطوات محدّدة، يتمّ إنجازها وفق أدواتٍ معينة على عدّة مستويات، داخلي مع الفريق المؤسس والأعضاء، وخارجي مع الفئات المستهدفة والمجتمع.


أهمّ سمات الخطة الاستراتيجية:

  1. أن تكون متصلةً مع الواقع، وتحاكي القضايا المطروحة في المجتمع، وتُبنى هذه العناصر بالضرورة بالتشارك بين مجموع الأفراد المشتركين بالفكرة كمرحلةٍ أولى لخلقِ توافقٍ وتجانسٍ بالرؤية بين الأعضاء المؤسسين من جهة. وبينهم وبين المجتمع أو أصحاب المصلحة من جهةٍ أخرى، وهو ما يجعل المؤسسة تنتمي بشكل فعليّ إلى مجتمعها واحتياجاته وتغيراته. 
  2. أن تسير وفق منهجيّة محدّدة زمنيًّا، بالاعتماد على أدوات التخطيط الاستراتيجي[1] في جمع المعلومات وإدارة النقاش، وبناء التوافقات المُرضية لجميع الأعضاء. 
  3. أن تكون شاملةً، وطويلة الأمد ومستمرةً، يقوم بها الأعضاء القادة في المنظمة الممثلين بمجلس إدارة المنظمة، وتحدًد هذه العملية مساراتِ التغيير وطرق الوصول إلى الأهداف بعيدة المدى.
  4. أن تجيب بمكوناتها المختلفة على سبعةِ أسئلةٍ رئيسيّة تحتاج أيّ مؤسسةٍ أن تبني توافقًا حولها سواء داخل المؤسسة أو خارجها: (سبب وجود المؤسسة؟ لمن تتوجه المؤسسة؟ ماهي نقطة البداية عند إعداد الخطة؟ ما هو التطوّر المنشود من خلال تنفيذ الخطة؟ ما الذي ينبغي أن تفعله المؤسسة لتصل إلى هذا التطوّر؟ ما الذي تحتاجه المؤسسة للوصول إلى هذا التطوّر؟ كيف سنحدد مدى نجاح الخطة؟) بالإجابة على هذه الأسئلة تُبنى مكونات الهويّة لمؤسسات المجتمع المدنيّ المؤلفة من:
    • الرؤية (Vision) والتي هي الطموح البعيد الأمد أو التغيير الذي تبتغي المؤسسة تحقيقه في قضية ما. وتُشتقّ منها الرسالة (Mission) والتي هي: وثيقة مكتوبة تمثّل دستور المؤسسة، والمرشد الرئيسي لكافة القرارات والجهود التي تنفذها، وهي بيان مكتوب يوضح اتجاه المؤسسة، وغرض وجودها، والمشكلة التي تسعى إلى حلها، وأيضا المساحة الجغرافية لعملها، والوظائف التي تؤديها. 
    • وتتبع ذلك تحديد القيم الأساسيّة (Value) التي تعمل عليها وبها المؤسسة، والتي يجب أن تكون على اتصال مباشر بمجالِ أنشطة المؤسسة. ومن ثم صياغة الهدف الاستراتيجيّ أو الهدف العام، وهو بعيد المدى ويتمّ اشتقاقه من الرؤية، وتتمّ صياغته على شكل فعل تسعى المؤسسة لتحقيقه.[2]  
    • وأخيراً نظريّة التغيير (Change of theory): هي الأفكار والفرضيات حول كيفيّة إحداث التغيير. وهي ترتكز على المعتقدات الشخصية والفرضيات والحدود الضروريةِ والتصوّر الشخصيّ للواقع. بمعنى آخر إنّها تشكّل إطارًا توجيهيًّا لجميع مراحل التفكير والعمل وإضفاء المعاني على التجارب عندما نتدخّل عن عمدٍ في مسارات تغيير اجتماعيّ ما.[3] فعلى سبيل المثال نفترض وجود منظمة نسويّة تعمل على تمكين النساء، بعد تحليلها للواقع وللقضية التي تسعى لتحقيقها وخارطة المعيقات والمؤثرين الفاعلين، توصّلّت إلى أنّ السبب الرئيس في عدم المساواة الجندريّة في المجتمع، هو ضعف المشاركة الاقتصاديّة للنساء، لذلك بَنَتْ نظريتها في التغيير على “أنّ التمكين الاقتصاديّ وما يتعلق به من تأهيلٍ وتدريبٍ وتعليمٍ وتوفيرِ فرصِ العمل، كلّها عوامل أساسيّة وتراكميّة في تحصيل المساواة الجندريّة، الذي يقود إلى تخفيف العنف في المجتمع” لتصبح هذه النظريّة في التغيير بمثابة موجّهٍ لجميع البرامج والمشاريع والتدخلات التي سوف تعمل بها المنظمة في المستقبل.[4]

يوضّح الشكلُ أدناه[5] مثالًا على كيف تكون نظريّة التغيير حاضرةٌ في كلّ تفاصيلِ المشروع في عمل المنظمات من البداية وحتى النهاية، حيث كلّ نشاط يفترض أن يصب في مُخرجٍ محدد، وهذا المُخرج يصبّ في التغيير المنشود. ونظريّة التغيير أيضا تكون حاضرةً في الاستراتيجيات الواجب العمل بها بشكلٍ مسبق، حيثما تفترض المنظمة أنّ اتباع استراتيجيّةٍ محددةٍ سوف يؤدي إلى نتيجةٍ تصب بالهدف الموضوع.


تكمن خطورة عدم وجود هويّة للمؤسسة، في تحوّل المنظمات غير الحكوميّة من قطاعٍ يسعى للصالح العام؛ إلى مجرّد منفذٍ لأنشطةِ وخططِ المنظمات المانحة أو الدوليّة، أو أدواتٍ بيدِ السلطة. وهذا يفرّغهُ من سبب وجوهر وجوده الأوّل، وهو السّعي للصالح العام بما يصون حقوق الأفراد ويحفظ حرياتهم. وهذا ينطوي على مخاطر في إطار تحويله لمجرّد كيانٍ يسعى لالتقاط فرص التمويلِ بغضّ النظرِ عن مدى توافقها مع رؤيته وتوجهاته، أو مجال عمله وخبرته في المجتمع؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعارضٍ قيميٍّ، وهدرِ الكثير من الموارد لنقص الخبرة، فضلًا عن إضعاف قدرته النقدية المطلوب حضورها الدائم والمستمر. 


مثال عملي توضيحي عن هويّة منظمة Hivos الدوليّة :

الرؤية:

تؤمن Hivos إيمانًا راسخًا بحقّ كلّ شخص في العيش بحريّة وكرامة، والتمتّع بفرصٍ متساوية، والتأثير على القرارات المتخذة بشأن التغييرات التي يريدون رؤيتها في حياتهم ومجتمعاتهم وبلدهم.
نتصور عالمًا تُحترم فيه الاختلافات الفرديّة والخلفيات وتُستخدم لتقوية المجتمعات. عالم يتحدّ فيه الناس لتحدي اختلالات موازين القوى التي تسمح بالتدهور البيئيّ وتؤدي إلى تغيّرِ المناخ؛ والتي تتغاضى عن الاستغلال والقمع والإقصاء؛ والتي تديم عدم المساواة بين الجنسين.

الرسالة:

تعمل Hivos من أجل عالمٍ يمكن للناس فيه تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وإطلاق العنان لإبداعهم لبناء مجتمعات عادلة ومستدامة للحياة لأنفسهم وللأجيال القادمة. مهمتنا هي تضخيم وربط الأصوات التي تعزز العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة وتتحدى اختلالات القوة. نقوم بتمكين أصحاب الحقوق المهمشين بشكلٍ خاص لرفع صوتهم والمطالبة بحريّة الاختيار.
تدعم Hivos تطوير حلولٍ بديلةٍ للمشاكل العميقة الجذور بحيث يمكن للأفراد والمجتمعات اتخاذ خيارات مسؤولة وعادلة ضمن الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة التي تخدمُ احتياجاتهم وتحافظ على الكوكب. نحن نربط الأشخاص والمنظمات التي تقدّم بدائلَ لأولئك الذين يبحثون عن حلول في كفاحهم من أجل العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة.

القيم الجوهرية:

نحن نؤمن بأنّ الحياة البشريّة بأشكالها المتعددة ذات قيمة؛ أن جميع الناس يستحقون تحقيق إمكاناتهم الكاملة، مع تحمل مسؤولية الحفاظ على بيئتنا الطبيعية. يؤدي العيش في حريّة وكرامة، مع احترام بعضنا البعض وكوكب الأرض، إلى زيادة رفاهية الفرد ومجتمعات عادلةٍ وحيويّةٍ. قيمنا (الحرية والكرامة، المواطنة المسؤولة، تقرير المصير والتنوّع، المساواة والعدالة، الاستخدام المستدام لموارد كوكبنا).

نظرية التغيير:

تسعى منظمة هيفوس لتحقيق تغيّرٍ هيكليّ ومنهجيّ يمكّن جميع المواطنين -الرجال والنساء على حدٍّ سواء- من المشاركة على نحو فعّال ومتساوٍ في مسارات صنع القرارات التي تحدّد حيواتهم وشكل مجتمعاتهم ومستقبلهم. بناء على ذلك، تنخرط هيفوس وكادر عملها والمنظمات الشريكة في مسارات تغيير مركّبة وشائكة.
يتولّد التغير نتيجة عمليات تجاذب متبادلة ومتزامنة من قبل قوًى اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة متعددةٍ تضمّ الكثير من الأفراد والكيانات. مسارات التغيّر الاجتماعي مركّبة وشائكة وتتميز بحلقات تغذيّة راجعة غير أفقية: أفعالنا الذاتية تتفاعل مع أفعال الأخرين ومع عوامل تأثير لا تعدّ ولا تحصى. هذا الأمر يولّد تفاعلاتٍ لا يمكن توقّعها واستشرافها، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بمحصلات التدخلات التي تسعى للتغّير.


[1] – يمكن الرجوع إلى كتيب التخطيط الاستراتيجي لمنظمات المجتمع المدنيّ، لمزيد من التفاصيل والأمثلة عن كيفية بناء خطة استراتيجية لمنظمات المجتمع المدني. 

[2]  فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية. بيروت: فريريش إيبرت، ص16

[3]  ماريان فان إس. (بلا تاريخ). الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير، ص12

[4] – يمكن الاطلاع أكثر على كيفية بناء نظرية التغيير من خلال دليل منظمة هيفوس لنظرية التغيير (الممارسات العملية لفكر نظرية التغير) في الرابط التالي: https://resources.peopleinneed.net/documents/637-toc-arabic-hivos.pdf

[5] – الشكل مأخوذ من كتاب الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير. ماريان فان إس. (بلا تاريخ). ص37.

اترك تعليق

مشاركة الموضوع

بناء هويّة المؤسسة:

أو نسخ الرابط