إطلالة على التاريخ الاستعماليّ لمفهوم المجتمع المدنيّ وتطوّره

المقدمة

مِن الأهمية دراسة تطوّر مفهوم المجتمع المدنيّ في سياقٍ جدليّ؛ يأخذُ بالاعتبارِ تطوّرَ المجتمعاتِ الديمقراطيةِ الحديثةِ وانتشار مفهومِ سيادة القانون، بالتوازي مع تكرّس الاتجاهات الفكريّة والفلسفيّة الأكثر رسوخًا في الوعي الإنساني حول العلاقة بين الدولة والمجتمع. ابتداءً من فلاسفة عصر التنوير الأوربيّ مرورًا بالفلسفة الهيغليّة، وصولًا إلى الانعطافة الغرامشيّة التي أثّرت ورسّخت، بل وقامت بتأطير مفهوم المجتمع المدنيّ، بمقابل الدولة الحديثة. 

وبالتوازي يستعرض أهمّ الأحداثِ والثوراتِ والاحتجاجاتِ التي أسهمتْ في بلورة المفهوم كممارسةٍ عمليّة للشعوب، وفقَ سياقٍ زمنيٍّ تسلسليّ يرسم للمفهوم إطارًا نظريًا وعمليًا في آنٍ معًا. مع الإشارةِ إلى أنّ هذا التقسيم للمراحل ما هو إلا تعبيرٌ عن أهمّ المراحل في بلورة التعريف وتأطيرِ المفهوم في الفكر السياسيّ والاجتماعيّ. 

وقبل الخوض في غمار استعراض النظريات الحديثة التي تناولت المفهوم الحديث للمجتمع المدني، من الأهمية بمكان ولضرورة الفهم المتصل زمنياً، الإشارة إلى أن أول ظهور للمجتمع المدني كان في الفلسفة السياسية اليونانية، وبالتحديد لدى كل من أفلاطون وارسطو، الذين تناولوا بالنقاش المفهوم في سياق النظرية السياسية اليونانية حيثما المجتمع مقسم إلى طبقات ثلاث: (احرار وهم المواطنون الذكور، العبيد من ليس لهم أي حقوق، والأجانب المقيمين ممن لهم حقوق محددة). 

أولًا: المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية القديمة

نظر أفلاطون الى المجتمع المدني من خلال الدولة بصفتها تجسيدا للحياة الأخلاقية، حيث عدَّ القانون وازع أو ضمير أخلاقي للمواطن. ويتأسس المجتمع المدني لديه على الاعتراف بالتنوع والفهم العميق لتقسيم العمل، فهو مثل جسم الإنسان أو طاقم السفينة يتألف من عناصر مختلفة لها مهارات متنوعة وتؤدي مهمات مختلفة. وهذا التقسيم القائم على الاستعدادات الطبيعية يقع في قلب نظرية أفلاطون عن العدالة والسياسة؛ فلا يتحقق التوازن والاستقرار إلا حين يقوم كل فرد بالوظيفة المنوطة به. فإذا كانت العدالة توازناً وصحة، فإن الظلم تنازع والتحلل فوضى، ويمكن أن تعزى أعمال الشغب كلها إلى عجز الأجزاء المكونة للدولة عن أداء أدوارها بالاستناد إلى طبيعة وظائفها.

أما السبب الرئيسي في دمار المجتمع -بحسب أفلاطون- فهو المصالح الخاصة والأنانية، التي يمكن أن تفتت الروابط التي تشد مفاصل المجتمع المدني معاً، فالغنى ينتج الرفاهية والعطالة، والفقر ينتج معايير واطئة للمعرفة والعمل والسلوك. بهذا المعنى (الغنى والفقر) كلاهما نزعتان هدامتان. ولا شيء أخطر على وحدة المجتمع وتماسكه، في نظر أفلاطون، من الفوضى التي تولدها مراكز ثقل مختلفة تدور حول الاهتمام الأناني بالذات. والامر ذاته ينطبق على الطموح والجشع والتخاصم والتنافس التي تشكل تهديدات ثابتة للمجتمع المدني، لأنه من الصعب التحكم في الأهواء الخاصة بعقوبات خارجية، في حال غياب الالتزامات المشتركة. فالمجتمع المدني بحسب أفلاطون يعتمد في النهاية على أنماط ثابتة من الفكر، لا على العقوبات والقسر. فالمجتمع المدني يجمع الحقيقة والخير والجمال، مع المعرفة والقوة والدولة.


شاطر ارسطو أفلاطون فهمه لكون الصلات الإنسانية تتجذر في الحاجة المادية، وتقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني، الذي هو عبارة عن جماعة منظمة سياسياً. لكنه انتقد فكرة الوحدة بمعنى التجانس التي نادى بها أفلاطون، ورأى أن المدينة هي المقولة الوحيدة التي يمكن ضمنها أن نفهم الحياة المشتركة للمواطنين خارج العائلة. فالمدينة تقتضي بالضرورة تفاوتاً في القدرات بين أعضائها، الأمر الذي يمكّنهم من أن يخدموا بعضهم بعضاً، ويحققوا حياة أسمى وأفضل عبر تبادل خدماتهم المختلفة. حيث جاء في كتابه “السياسة” قوله: “أولاً، تبين لنا الملاحظة أن كل مدينة أو دولة إنما هي ضرب في ضروب الاجتماع؛ وتبين ثانياً، أن كل الجماعات تتأسس من أجل تحقيق نوع من الخير؛ ذلك أن الرجال جميعهم يمارسون أفعالهم بغرض تحقيق ما هو خير من وجهة نظرهم”. والغاية من المدينة حسب ارسطو هو العيش بصورة جيدة، لا مجرد العيش، والدولة توجد من أجل تعزيز المصلحة العامة؛ فهي تجمّع فريد في نوعه.

بصورة مختصرة نظر الفكر الكلاسيكي اليوناني إلى المجتمع المدني من زاويتين مختلفتين لكنهما متكاملتان: الأولى سياسية مفادها اعتبار المجتمع المدني جماعة سياسية منظمة، والثانية أخلاقية المجتمع المدني كونه جماعة تنظمها القيم الأخلاقية لا سيما العدالة بصفتها أم الفضائل، باشتمالها على الحرية والمساواة. ولعل هذه المقولات والأفكار والمفاهيم التي تمت مناقشتها في الحضارة اليونانية ومن ثم الرومانية، سوف تكون حاضرة في التفكير الجمعي العام لدى فلاسفة ومفكري عصر النهضة الاوربية، الذين أعادوا إنتاجها نقديا وقدموا فهما جديدا لها في ضوء النظام السياسي الجديد[1]، وهو ما سوف يتم استعراضه في الفقرات اللاحقة.


[1] جاد الكريم جباعي (2020) محاضرة حول مفهوم المجتمع المدني ضمن المساق التعليمي: المجتمع المدني-المجتمع السياسي و”الدولة الوطنية”، همزة وصل.

ثانيًا: مفهومِ المجتمع المدنيّ لدى مفكري العقد الاجتماعي، والثورة الفرنسيّة

ارتبط التجلي الأول للمجتمعِ المدنيّ بمفهومهِ الحديث، مع ظهور الدولة الحديثة في عصر التنوير الأوربيّ أواخر القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، وهي مرحلةُ التحوّلِ من النظام القديم الذي كانت فيه أوروبا تنتظم في مجتمعٍ مُوحّد تحت سلطة الأمير البابوي، وحيثما الفلسفة السياسيّة السائدة آنذاك تتلخص في مجازين اثنين: يقارن أوّلهما المجتمع بجسد ساقاه الحرفيون والفلاحون على الأرض، ورأسه (البابا) يطاول السماء. ويقارن المَجاز الثاني المجتمع بالأسرة، حيث كما أنّ للأسرة ربًّا غير منازع هو الأبّ، كذلك فإنّ للمجتمع رئيسًا غير منازع هو السّلطان.[1]

ساهمت الثورة الفرنسيّة (كحركةٍ اجتماعيّةٍ) في فكفكة النظام القديم، حيث لم تعدْ طبقة النبلاء قويّةً وموحدةً وقادرةً على حماية النظام، وأخفق رجال الدين في الحفاظ على تماسكهم ووحدتهم، وحدثت تحوّلاتٌ اقتصاديّةٌ في بنية الانتاج والطبقة الاقتصاديّة مع الثورة الصناعيّة الأوّلى[2]، بالإضافة لتحوّلاتٍ اجتماعيّةٍ امتدت إلى القيم الاجتماعية والنسَقِ الثقافيّ. ليتمّ الحديث عن تغييرٍ جديدٍ رافضٍ لما كان سائد سابقًا، 

تبلورت التغييرات الحاصلة بما يخص النظام السياسي والاجتماعي الأوربي عموما، والمجتمع المدني على وجه الخصوص؛ عبر حصيلة نقاشات نوعية من قبل المفكرين والمنظرين في كافة انحاء القارة الاوربية واستمرت على مدار أربعة قرون قبل اندلاع الثورة الفرنسية،[3] وتجمعت خلاصة الأفكار بما يخص الفلسفة السياسية الجديدة للدولة، والمجتمع المدني، في نظريات وأفكار من أطلق عليهم مفكرو العقد الاجتماعي (ميكافيلي، هوبز، لوك، وروسو) [4]


تلخصت أفكار ميكافيلي (1496-1527) في هدم فكرة التفويض الإلهي للحاكم، واقامة السياسة على أسس دنيوية وموضوعية خالصة، والتأسيس لفكرة العقد الاجتماعي. وفي إطار حديث ميكافيلي عن المجتمع المدني أكد على أهمية الالتزام بالصالح العام بين أعضاء المجتمع؛ فبدون عادات الفضيلة المدنية التي تحض الناس على إعلاء الصالح العام، سيكون المجتمع مهددا بالانهيار بفعل ما هو متأصل في الجنس البشري من أنانية طبيعية. 

في حين رفض توماس هوبز (1588-1679) نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ (أي أنه نادى بعلمانية الدولة وانبثاقها من المجتمع المدني بالتعاقد والتوافق)، فالدولة تدين في وجودها وشرعيتها إلى إرادة المجتمع. فهي -أي الدولة- إنسان موضوعي صنعه الإنسان، وهذا الإنسان الصانع هو المجتمع المدني. رفض هوبز النظريات التي قالت بوجود المجتمع المدني قبل تنظيم الدولة، لأن الدولة في نظره انتصار على الطبيعة، وزوالها يؤدي بالضرورة إلى زوال المجتمع أو تفككه. والمجتمع هو ميدان الحياة العمومية والمصالح الشخصية، التي لا يحق للدولة أن تتدخل فيها، وبذلك أقام هوبز التفريقَ النظريَّ بين المجال العام والمجال الخاص. 

أما جون لوك (1632-1704) أعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. وغاية التعاقد الاجتماعي لديه هو الحفاظ على الأرواح والملكية الخاصة، وإلغاء النظام الملكيّ المطلق (أو الفردية الأوتوقراطية \الدينية\) التي لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدنيّ الذي ينطلق من مبدأ الإرادة الحرّة. واعتبر لوك أنا المبدأ الكفيل بتأسيس المجتمع المدني وتنظيمه وتجديد العلاقة بين السلطات المختلفة فيه، هو مبدأ اعتماد الأكثرية، فأساس المجتمع المدني هو الموافقة من جانب غالبية الناس لتشكيل كيان سياسي واحد، ومن هنا لابد من ظهور مبدأ الأكثرية الذي يعد شرطا أساسيا لقيام العقد الاجتماعي وشرطا أساسيا لكل حكومة شرعية بذلك يؤكد جون لوك الدلالة الليبرالية لشرعية السلطة السياسية.

بينما حاول جان جاك روسو (1712-1778) البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ، هي (سلطةُ الشعب). ومأثرةُ روسو الخالدة تأكيده على شرط التلازم النسبيّ بين الحريّة والمُساواة، فلا مكان في عقده الاجتماعيّ لمواطنٍ غنيّ إلى درجةٍ تُمكنهُ أن يشتري الآخر، وفقيرٍ إلى درجةٍ يضطرُ فيها إلى بيعِ نفسه، لقد أدخل روسو عنصر المُساواةِ إلى المجتمع المدنيّ، وبذلك جعل العدالةَ الاجتماعيّة شرطَا للحريةَ.[5]


أبرز المساهمات للمفكرين التي أطاحت بالنظام القديم وبلورت الفكرَ في المجتمع الحديث بكليته [6]

نيقولا ميكافيللي

(1469-1527)

حاولَ البرهنةَ على أنّ البواعث المُحركة لنشاط البشر هي الأنانيةُ والمصالح المادية، فالفرديّة والمصلحة عنده هما أساسُ الطبيعةِ الإنسانية.

نيقولا كوبرنيكس

(1473-1532)

أسهمتْ في تحطيمِ الأيديولوجية اللاهوتية ووضعت الأسسَ الأولى لبداية تاريخ تحرّر العلوم الطبيعية من اللاهوت.

مارتن لوثر

(1483-1546)

أعلن مطالبته بالإصلاح الديني، وأنكر دور الكنيسة ورجال الدين في الوساطة بين الإنسان والله. وكان لهذا دورٌ هامٌّ في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة، وتعميق تطوّر مفاهيم المجتمع المدنيّ والمُثل السياسية البورجوازية والدولةِ الديمقراطية.

فرنسيس بيكون

(1561-1626)

دعا إلى إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها، وإلى النزعة الشّكيّة فيما يتعلق بكلِّ علمٍ سابق كخطوةٍ أولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من الأوهام.

ديكارت

(1596-1650)

ارتكز المذهب العقلاني عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية

توماس هوبز

(1588-1679)

رفض نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ، بمعنى ان الدولة تدين في شرعيتها إلى إرادة المجتمع.

جون لوك

(1632-1704)

رفض مفاهيم المجتمع الإقطاعي، وأعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. والغرض من التعاقد الاجتماعي المحافظة على الأرواح والملكية الخاصة وإلغاء النظام الملكيّ المطلق

شارل مونتسكيو

(1689-1755)

أكدّ على أن الضمانة الأساسية للحرية تكمن في المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدها بالحدّ من العسف وكبحه، إلى جانب رفضه للحكم المطلق الذي اعتبره شكلًا مناقضًا للطبيعة الإنسانية، ومناقضًا للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها، ففي “مجال العقوبات، يضع مونتسكيو حدًا فاصلًا بين الفعل وبين نمط التفكير، فالعِقاب يُستحق فقط على الأفعال لا على الأفكار، إذ أن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرّية”

جان جاك روسو

(1712-1778)

حاول البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ؛ هي (سلطةُ الشعب)

آدم سميث

(1723-1790)

أول من دشّن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدنيّ، من خلال تأكيده على مفهومين: الأمة بدل الدولة، والغنى (أو الثروة) بدل السياسة، بما يعني أن المجتمع المدنيّ هو مجتمع للمبادلات التجارية، فالعمليات الإنتاجية والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدريجية عن حكومة نظامية تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها في المجال الداخلي، والتي يقتصر دورها على المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، والقيام بالمشاريع الكبرى التي تعجز عنها المبادرة الخاصة.


اما على المستوى العملي؛ تَجسّد التعبير السياسيّ والقانونيّ الأوّل للمجتمع المدنيّ بشكل واضح وجلّي في إعلان “حقوق الإنسان والمواطن” أعقاب الثورة الفرنسية 1789، حيث كان هذا الإعلان بمثابة التحول الفعلي إلى فكرة المواطنةِ بمفهومها الحديث[7]. وكان هذا الإعلان ردة فعل واضحة عن انتهاكاتُ حقوقِ الإنسانِ التي كانت سائدةً قُبيل الثورة الفرنسيّة. تميّزت هذه الوثيقةُ الفرنسيّة عن غيرها مما سبقها من الدول الغربية، وخصوصًا انجلترا والولايات المتحدة الأمريكيّة بأنها أكثر شموليّةً ووضوحًا بالنسبة لحماية حقوق الإنسان، كما أنها لم تقتصر على حماية المواطن الفرنسيّ فقط، بل اتسع نطاقها لتشمل جميع الناس؛ وركّزت مقدمةُ الإعلان على ضرورة تعريف الإنسانِ بحقوقهِ وتذكيرهِ بها لأنّ جهل حقوقِ إنسان أو نِسيانها أو ازدرائها هي الأسباب الوحيدة للمصائبِ العامة.[8]


ويُمكن القول إن مفهومَ المجتمع المدنيّ في نقاشات مُفكري عصر النهضة تأسسَ من خلال التركيز على ثلاثةِ قيمٍ رئيسيّةٍ؛ ستشكّل فيما بعد ركائز المجتمع المدنيّ، وهي[9]

  • قيمة الفرد المواطن باعتبارها قيمةً عليا مطلقةً ومقدسةً ولها حقوقٌ مصانةٌ، خاصةً حقّ الحياة وحرمة الجسد والملكيّة، وحريّة التفكير. وعليه واجبات في مقابل الحاكم، وبهذا المعنى أصبح المجتمع المدنيّ تعبيرًا عن وعي الفرد بحقوقه في مواجهة السلطة.
  • قيمة المجتمع المتضامن الذي يتميز بقدرة أفراده على الالتزام بالمستلزمات الأخلاقيّة والقانونيّة الأساسيّة لتأسيس الجماعات المدنيّة. وتحوّلها لقوةٍ فاعلةٍ تتحرك وفق مصالحها في مقابل الحاكم أو السلطة، وتَمظهُرِها كقوةٍ لا يمكن تخطّيها في وقتٍ لاحقٍ من تطوّر النظريّة السياسيّة.
  • قيمة الدولة ذات السيادة، والمستمِدة شرعيَتها في الإدارة والحكم من الشعب، واعتبر السلطة والحقوق الناتجة عنها حقوقًا مشروعةً ومقبولةً. 

مقدمة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789

“إن ممثلي شعب فرنسا مشكلين في هيئة جمعية وطنية قد توضح لهم أن الجهل والإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الرئيسة للمصائب العامة وفساد الحكومات وقد قرروا ان يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها). لقد عول الشعب الفرنسي كثيراً على الثورة التي حملت لواء الحرية والمساواة بين أفراد المجتمع، وجاءت الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الجمعية الوطنية ملبية تماماً لأهداف ورغبات الشعب، فقد كان الشعار الذي رفعته الثورة (الحرية العدالة، الإخاء)، كافي لتحقيق المساواة والرفاهية للشعب، ولم يبق إلا أن تشرع الجمعية الدستور والقوانين التي تحدد حقوق المواطن وتصونها وتحميها من جور السلطة”.


[1]  مصطفى صفوان. (2012). لماذا العرب ليسوا احرارا. بيروت: دار الساقي.

[2] الثورة الصناعية الأولى: بدأت في نهاية القرن الثامن عشر في بريطانيا بعد اكتشاف الألة البخارية، والتحول من الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الآلي، وما لبث أن امتد ليشمل كل أوربا. 

[3] يمكن الإطلاع على ملخص لأهم أفكار الفلاسفة والمنظرين التي أسهمت كتاباتهم بالنهضة الاوربية في الشكل بنهاية هذه الفقرة. 

[4] مفكرو العقد الاجتماعي: وهم المفكرين الذين ناقشوا العلاقة بين الفرد والسلطة في عصر النهضة الاوربية من ناحية تنازل الفرد عن بعض حريته للدولة التي سوف تضطلع بدورها بتولي حماية بقية حقوقه. 

[5]  شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[6] شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[7]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

[8]  ميريام أشقر. (د.ت.) إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، الموسوعة السياسية.

[9]  نبراس المعموري. (18 01, 2021) إسهامات المجتمع المدني في العقد الاجتماعي، صحيفة الزمان.


ثالثًا: المجتمع المدنيّ لدى هيغل، وثورات الشعوب الأوربيّة

التطوّر المهم الثاني كان في فكر الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل[1] الذي نَقد مفكريّ العقد الاجتماعيّ، ففي حين وضع مفكرو العقد الاجتماعيّ الدولةَ في خدمة المجتمع المدنيّ، جاء هيغل بفلسفة سياسيّة اعتبرتْ المجتمع المدنيّ مرحلةً من مراحلِ الدولة، وجعل المجتمع المدنيّ في خدمة الدولة، ودعا الأفراد إلى التضحيّة بأنفسهم من أجل بقاء واستمرار الدولة. ورسمَ العلاقةَ بينهما أي المجتمع والدولة لا كمجردِ علاقةِ نفيٍّ وإثبات، وإنّما علاقةٌ يتحوّل فيها كلّ من طرفيها إلى مركّب مكوّن للطرف الآخر.[2]

فالمجتمع المدنيّ -بحسب هيغل- هو المجال الحيويُّ لرغبةِ الإنسان في الاعتراف بالذات، حيث يكون الفردُ حُرًّا، وتكون إرادته مرتهنةً جزئيًا بإرادة الدولة. والتعاقدُ عند هيغل يُنشئ المجتمع المدنيّ الذي يتكوّن من أفراد مستقلين، لكلّ منهم ذاتٌ حرّة لا تَحدُّها إلا حريّة الذات الأخرى. وهذا الطرح شكّلَ أهميةً كبيرةً لأنّه يرى أنّ تفاعل كلّ إنسانٍ مع الآخر هو الذي يجعله يدرك العالم، وبالتالي أبرز أهمية التفاعل الاجتماعيّ، وطرح فكرةَ أن التشابه في مصالح مجموعةٍ من الأفراد تدفع بهم لأن ينتظموا في تنظيمات اجتماعيّة، لتكريس التعاون والتضامن.

فالمجتمع المدنيّ بالنتيجة هو مجتمعُ الحاجة، يتحرّك فيه الأفراد لإشباع حاجاتهم بكلّ حريّة، وهو يتوسط الأسرة والدولة، ويقوم بوظيفة الوساطةِ بين الفرد والجماعة، وتأتي الدولة لتوفّق بين الجزئيّة والكليّة. فأساسُ المجتمع المدنيّ هو: عدم قدرة أيّ فرد على الاكتفاء بذاته، ثم علاقات الاعتماد المتبادل، ثم تلازم المجتمع المدنيّ مع الدولة[3]


حاول هيجل من خلال نظريته عن المجتمع المدنيّ تخفيفَ الصراعات الاجتماعيّة عبر رؤيةٍ تقوم على التوازن بين الملكيّة الخاصة والأنانية الفرديّة من جهة، وإشكاليةِ الإفقار والاغتراب من جهةٍ أخرى، من دون التنازل عن حريّة الفرد وحقّه في التعاقد.

بعد وفاة هيغل بعشرة أعوام اندلعت ثوراتُ ما سُميّ “ربيع الشعوب الأوربيّة” 1848 في أكثر من خمسينَ بلدًا أوربيًّا اختلفت مطالبها بحسب الظرف الذي تعيشه كلّ دولةٍ وتحتَ أيّ سلطة، لكن ما كان ثابتًا أن معظم الثوراتِ كانت تفرض نفسها في مواجهة السلطةِ التي لم تكن تعبّر عن طموحاتِ ومطالبِ الأفراد، وراكمت الفكر الديموقراطي كتجربةٍ عمليّةٍ تعيشها وتختبرها الشعوب، وأَسست في الوقت عينه لدور مجتمعٍ مدنيٍّ فاعلٍ ونشطٍ.


ثورات الشعوب الأوربية 1848:

بدأت الانتفاضات بثورة أهالي باليرمو الإيطاليّة على حكم آل بوربون في ١٢ كانون الأول. ولحقتْ بها باريس بعد شهر، وكرّت المسبحة فلحقتْها ميلانو والبندقيّة ونابولي وفيينا وبراغ وبودابست وكراكاو وبرلين وكولن. تأثّر بها أكثر من خمسين بلدًا وصولًا إلى البرازيل. تعدّدت العوامل التي أطلقت الثورات بقدْر ما تعدّدت الأهداف. أبرز عوامل تلك الانتفاضات النتائج الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للثورات الصناعيّة – من بطالة وفقر وهجرة مدينيّة وظروف عمل قاهرة – والتوسّع الرأسماليّ الذي أخذ ينخر بنية الأنظمة الملكيّة الاستبداديّة ويطرح قضيّة توحيد الأسواق المحلّيّة.
الثورات في وجهٍ منها ثوراتٌ ديمقراطية تطالب بالملكيّات الدستوريّة أو بإعلان الجمهوريّة واعتماد الاقتراع العامّ وتأمين حريّة الصحافة والرأي والاجتماع. والثورات في وجهٍ آخر ثورات تحرّر وطنيّ ووحدةٍ قوميّة. عرفت المقاطعات الإيطاليّة والإمارات الألمانيّة والمجر وسويسرا وأيرلندا نزعات انفصاليّة كما في صقلية ضدّ حكم أسرة آل بوربون وفي المجر الساعية إلى الانفصال عن النمسا. في المقابل، جاءت الثورات في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا في سياق النضال من أجل تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطاليّة بتجميع عدّة ممالك وإماراتٍ ومقاطعات. في أمكنةٍ أخرى.
في الآن ذاته، اتّخذت الحركات الاجتماعيّة طابعًا لا يخلو من الحِدّة. انتشرت الانتفاضات الفلاحيّة المعادية للإقطاع ونجحت في إلغاء القنانة في النمسا وبروسيا في أواسط القرن. وأخيرًا ليس آخرًا قامت انتفاضاتٌ عمّاليّة في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، عبّرت عن ردود الفعل الأولى على التصنيع والرأسماليّة، وخرجتْ من صلبها تيّارات عماليّةٌ واشتراكيّةٌ لم تكن لتكتفي بالمطالبة بتحسين مستوى معيشة العمّال وشروط عملهم، بل دعتْ إلى تنظيمٍ اجتماعيٍّ جديد قائم على الحريّة والمساواة.

(طرابلسي، 2018)


[1] جورج فريدريش هيغل (1770 – 1831) فيلسوف ألماني من أبرز فلاسفة المدرسة المثالية. 

[2]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 61.

[3] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 49-48

رابعًا: المجتمع المدنيّ لدى كلّ من غرامشي وألتوسير والثورة البولنديّة

التطوّر الأهمّ والحاسم في القرن العشرين، والذي أدخل مفهوم المجتمع المدنيّ في صلب النقاش العام بوصفه “المجال الطبيعيّ لبناء الهيمنة الإيديولوجيّة المضادة لهيمنة الدولة[1]“. كان في أفكار أنطونيو غرامشي (1891-1937) المناضل السياسيّ والمفكر الاقتصاديّ الإيطاليّ الذي سُجن خلال أعمال مقاومة النظام الفاشيّ في إيطاليا، وشكّلت رسائله من السجن أحد كلاسيكيات الأدب اليساريّ المقاومِ. 

طوّر غرامشي المفهوم الماركسي المبسّط للإيديولوجيا -بصفتها وعيًا زائفًا- وجزء من البنية الفوقيّة[2]، إذ ميّز داخلها بين مستويين كبيرين: أوّلهما: المجتمع المدنيّ بالمعنى المتعارف عليه، وثانيهما: مستوى المجتمع السياسيّ أو الدولة، وكلاهما غير منفصلان وإنّما هما في علاقةٍ جدليّةٍ، تتخذ أشكالًا مختلفةً بحسب طبيعة الصراع وطبيعة السلطة. وبذلك وضع المجتمع المدنيّ مقابل الدولة، وناقش العلاقة بينهما، كما ناقش بُنّية المجتمع المدنيّ، وكذلك الفاعليّة لمنظمات المجتمع المدنيّ. 

فالمجتمع المدنيّ لديه هو هذا التركيب المتشابك والمعقد والمتسع الذي يلتقي فيه نسيجٌ متداخلٌ من التنظيمات الأيديولوجيا[3]، ويتحددُ بثنائيّة العلاقةِ مع الدولةِ بوصفهِ أداةَ سيطرةٍ واحتواء، والمجتمع بما يحويه من إرادة تحرّرٍ، واختلافٍ، وتعدّدٍ، واستقلالٍ.[4]بالمختصر حدّد غرامشي الفرق بين المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ في كون الأوّل مجال الإكراه، فيما المجتمع المدنيّ هو مجال للهيمنة المضّادة التي تمارسها السلطة.


ويشير غرامشي إلى أن العامل الحاسم في إنجاح أو إفشال الحراك الاجتماعي على المدى الاستراتيجي، هو الشرط الذاتيّ المتمثل في صنع ذاتية مجتمع المواطنين الأحرار من خلالِ المجتمع المدنيّ والمنظمات المستقلة، وبدون ذلك لن يكون ممكنًا للتغيير في المجتمع أن يحصل، بل بدلاً من ذلك ستظهر مروحةٌ واسعةٌ وغايةٌ في التنوع من الأعراض المرضية (أو المسوخ في ترجمات أخرى)، وعبارة غرامشي -بلغته الملغزة تلافيًا للرقيب عندما كان في السجن- هي: “إذا كان القديم قد مات والجديد ليس جاهزًا بعد، سيكون لدينا أعراض غاية في التنوع”. مفهوم الأعراض سيكون دلاليًّا ومحوريًّا ويُستعاد في سياق حراكات الربيع العربي في عمل جلبير أشقر: انتكاسة الانتفاضات العربية- أعراض مرضية، حيث يرى أن انتشار الأصولية والعودة الدموية للحكم العسكري والنظام القديم في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا واليمن، من حيث هي الأعراض الغرامشية، الناتجة عن عدم وجود المجتمع المدنيّ، المؤهّل لخلق الوحدة الاجتماعية بين النشطاء السياسيين والمثقفين وبين جمهرة المواطنين ضمن إطارٍ من الحريات المدنيّة، بما يسمح للمجتمع المدنيّ بخوض حرب مواقع على المدى الطويل ضد الهيمنة الأيديولوجية للأفكار التي يروج لها النظام السياسي للدولة، ونشر القيم التّقدميّة والإنسانيّة”.[5]


طوّر لويس ألتوسير[6](1918-1990) مفهوم الأيديولوجيا لدى غرامشي، مستلهمًا النضالية الكامنة والخصوبة النظرية للمفهوم، ولكن بالبناء على النتائج السياسية للتحليل النفسي عند فرويد، مؤسسًا لفهمِ تأثير الايديولوجيا على اللاوعي الفردي، وكيف يتمفصل مع الأجهزة الأيديولوجية للدولة كالمدرسة والسجن والكنيسة… إلخ. 

وتَركّزَ عمله في جانبه المتعلق بالنظرية السياسية، على مسألة ما يفصل بين الوعي المطابق للواقع (الذي تجده عند المشتغلين بالثقافة)، والوعي الموجود عند كثيرٍ من عامةِ المواطنين، الذي تغلب عليه المبالغات وعدم الواقعية، والتأثرُ بالخطابات السياسية، والتبعية للأيدولوجيات المهيمنة، أي مسألة التمييز بين العلم والأيديولوجيا. يمكن لكثير من الناس، برأي ألتوسير، حتى لو كانوا غير مشتغلين بالثقافة امتلاك هذا التمييز، ولكنه يشدد على فكرة ليس كلّ الناس تدرك ذلك. 

وبالنسبة لألتوسير فالهيمنة المضادة المطلوب أن تحققها أي أيديولوجيا تقدمية، تبدأ من ممارسة التقليد التنويري المتعلق بنشر الوعي بالايديولوجيا أو نشر التمييز بين ما هو (علمي\مطابق للواقع)، وما هو (أيديولوجي\سياسي)، بحيث يتمكن مثلًا الإنسان السوري أو الليبي المتأثر بدعاية الأنظمة أو الحركات المتطرّفة، من إدراك أنه وبينما أنّ المربع مربع والمستطيل مستطيل و1+1=2 فإن مفاهيم مثل الوطن العربيّ أو الأمّة الإسلاميّة أو أنّ الإرادة الإلهيّة تدعم الإرهاب والتمييز بين الناس، وما شابهها من قناعات رائجةٍ ومنتشرةٍ، هي مفاهيمُ ايديولوجية تعكس هيمنةَ أصحاب المصالح الطبقيّة والسلطويّة، على أنماط تفكير المواطنين وخياراتهم.


يمكن القول من الاستعراض الموجز لأفكار كلّ من غرامشي وألتوسير التالي: 

  • بتأثيرِ أفكارِ ومناقشاتِ غرامشي، فهِمت مجتمعاتُ النشطاء العمل التنظيميّ المستقل عن المنظمات السياسيّة، والأثرَ البعيدَ للمواصلةِ بقوةٍ في العمل المدنيّ على الأرض في المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة، والبعد الأيديولوجي البنّاء لهذه الممارسة.
  • قد لا يرى كثيرون في المنظماتِ غير الحكومية وبيروقراطيتها الشديدة وتبعيتها للأجنداتِ الحكوميّة اليوم، مدعاةً للتفاؤل، ولكن الدرس الغرامشيّ يشير إلى أنّ الهيمنة الأيديولوجيّة للمُثُلِ الإنسانيّة تراكمٌ تاريخيّ يتأثرُ بكلّ العوامل القائمة، وأنّ تفاؤل الإرادة المفترض به أن يكمّل تشاؤمَ العقل، هو بالنهاية مسألةُ حربِ المواقعِ تلك، أيّ الرهان على العمل بصورةٍ تدعم الهيمنة المضادة التي يعمل المجتمع المدنيّ على بنائها بالشكل الذي يتيح إمكانية التغيير.

أعادت التجربة البولنديّة في أواخر الثمانينات إحياء المجتمع المدنيّ في أوربا كممارسةٍ عمليّةٍ ضد دكتاتوريّة السلطة، إذا أسهمت جملة الظروف الاقتصاديّة السياسيّة في التحشيدِ من قبل النقاباتِ بمواجهة وحشية السلطة من جهة، وتجاه مطالب بتغيير النظام السياسيّ باتجاهٍ أكثر ديموقراطيّة ومشاركة، وتغير النمط الاقتصاديّ المُتبنى، وهو ما كان.


الثورة البولندية 1988:

بدأ تراجع النظام البولندي مع لحظة بداية ارتكابه ممارسات وحشية لم تكن خاضعة للمساءلة، هو ما تمثل رمزياً في مقتل جريجوز بيرميك الشاعر ذو التسعة عشر ربيعاً، والذي قتلته قوات البوليس بوحشة في عام 1983، والتي مهدت مع أزمات التدهور المستمر في وسائل المعيشة، والصعوبات الاقتصادية والبطالة، والتفاوت ما بين السلطة والشعب، والفجوة بين الأجيال، والرقابة. الى حركة احتجاجية بعد ستة أعوام. حيث أطلقت النقابات العمالية المدعمة بالمفكرين اليساريين الشرارة الاولى في التغيير عام 1988، والتي تعالت أصواتهم بالسخط على الاوضاع في ذلك الحين بالنيابة عن هؤلاء المعدمين.
وبفعل الإضرابات التي اجتاحت بولندا، اضطر الحزب الشيوعي البولندي الحاكم إلى عقد محادثات “المائدة المستديرة” مع قادة حركة “التضامن” العمالية أسفرت عن إجراء انتخابات حرة، وتشكيل أول حكومة غير شيوعية في أوروبا الشرقية، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة والفصل بين فروعها.

(منتدى البدائل العربي، المعهد البولندي للشؤون الدولية، 2018)


كخلاصاتٍ سريعة: 

  • المجتمع المدنيّ صيرورة فكريّة تاريخيّة تكوّنت عبر أفكار الفلاسفة والمنظرين السياسيين الذين أضافوا للنظريّة السياسية مفهوم الدولة الحديثة، وأيضًا بفضلِ حراكاتِ وثوراتِ الشعوب التي شكّلت اختبارًا عمليًّا لقوة المجتمع المدنيّ كقوةٍ مجتمعيّةٍ في مقابل السلطة، بل يمكن اعتبار هذه الحراكات هي الأساسَ الأوّل في التغيير، وبناءِ النظام والمفاهيمِ الجديدة. فالمجتمع المدنيّ -بحسب بشارة- هو صيرورةٌ فكريّةٌ وتاريخيّةٌ نحو المواطنة والديموقراطية عبر مجموعةٍ من التمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين المجتمع والدولة.[7]
  • يرتبط المجتمع المدني بالدولة بعلاقة جدلية من حيث اسبقية الوجود والتأثير، إلا أنه عملياً يمكن القول إن ظهور المجتمع المدنيّ الذي نعرفه؛ ارتبط ظهوره مع وجود الدولة بمفهومها الحديث القائمِ على التعاقد بين مجموع المواطنين، وهذا يعني أنّ الدولة هي الشرطُ الضروريّ للمجتمع المدنيّ كونها تعطي صفة المواطنة لأفرادها وهي التي تشكل جوهر المجتمع المدني. وبدونها -أي الدولة- يكون الشكل المتخيل على المستوى النظري هو مجتمعٌ يستند إلى العلاقات المولودة (العائلة، القوميّة، الطائفة، الدين) على حساب العلاقات التعاقديّة القائمة على المصلحة. ولعل الأمرَ الأكثر إثارةً والذي يجب أن يشار إليه في هذا السياق إلى أنّه في المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبداديّة حيثما يتحوّل دور الدولة من رعاية المجتمع إلى رعاية النخبة الحاكمة، وما يفرضه ذلك من تقييد للحريات، وسحق للحقوق السياسية والمدنية، وتقييد لمساحات عمل المجتمع المدنيّ، يكون الشكل الأبرز لتنظيم علاقات الأفراد في مواجهة تغوّلِ السلطة؛ هو اللجوء إلى البنى التقليديّة، أيّ العلاقات الوشائجيّة المولودة (كالعائلة أو القبيلة، الدين أو الطائفة، أو القوميّة)، بما تشكله من حلقات الأمان الوحيدة المتوافرة للأفراد.
  • وبالتالي فإن ثلاثيّة: الدولة كسلطةٍ قهريّة، الفرد كمواطنٍ حرّ، والمجتمع كقوّةٍ تضامنيّة فاعلة، هي ركائز المجتمع المدنيّ الذي يشغل الوسط بينها، ويعمل على خلق مستوى من التوازن؛ بحيث لا يطغى أيٌّ منها على الأخر، وبطبيعة الحال ألا يطغى أيٌّ منهما على حرّيات وحقوق الفرد. 
  • لذلك تختلف الأدوار التي يضطلع بها المجتمع المدنيّ من مجتمعٍ إلى آخر بحسب مؤشرين اثنين يؤشران إلى درجة تطوّر المجتمع: الأوّل من ناحية مستوى ترسّخ مفهوم المواطنة واقتصاد السوق وقدرة الأخير على إنتاج نفسه خارج الدولة. والعامل الثاني مدى سيطرة العلاقات التعاقدية بين الأفراد، وتفوّقها على الانتماءات الوشائجية[8]
  • يحتلّ المجتمع المدنيّ مكان الوسط بين ثالوث (الفرد والجماعة والدولة)، وهذا يعني أنّه لا يقوم بذاته، بل على العكس تماماً؛ فهو يعتمد على هذه الأشكال الثلاثة من الروابط ويتغذى منها بقدر ما يستقل عنها أو يتواجه معها. وبالتالي ليس له أن يدّعي الحلول محلّها أو إلغائها. وبهذا المعنى فإنّ المجتمع المدنيّ يعمل على تشكيل قيمٍ وقوى ومؤسساتٍ وحركاتٍ تحُول دون سيطرة أحد عناصره (أي السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي) عليه، بحيث يكون دومًا أقوى من أيّة سلطة فيه[9].
  • المجتمع المدنيّ يشكّل أداةَ إصلاحٍ سياسيّ بدائليّ مضّادٍ للشموليّة، ورديفٍ للمجتمعات المحليّة، فهو من دون دوره السياسيّ وخارج سياق المعركة من أجل الديموقراطية، هو عملية إجهاض للمعنى الذي وجد من أجله تاريخيًّا، وإجهاض لطاقته النقديّة، فضلًا عن نزع قدرته التفسيريّة على فهم البنى الاجتماعيّة والسياسيّة.[10]
  • وفي الوقت عينه أهمية المجتمع المدنيّ “لا يمكن اختزالها في الحياة السياسيّة، ولكنّه غنيّ بجميع الأنشطة الاقتصاديّة والدينيّة والثقافيّة.[11]


[1] الهيمنة هي سيطرةُ الطبقةِ الحاكمةِ على المجتمع، وصناعة الأيديولوجيّة السائدة التي تعتبر صالحةً لكل مكان وزمان، وتبرر الوضع الراهن الاجتماعيّ، السياسيّ والاقتصاديّ كأنّه الوضع الطبيعيّ والحتمي.

[2] ميز ماركس بين بنيتين في المجتمع: الأوّلى تحتيّة: تضمّ قوى وعلاقات الإنتاج، تقسيم العمل، وعلاقات الملكية التي يدخلها الناس لإنتاج ضروريات الحياة وكمالياتها. والثانية هي البنية الفوقيّة فهي تشتمل على الثقافة، بنى السلطة السياسيّة، الأدوار الاجتماعيّة، الطقوس، الدولة والمؤسسات. وبحسب ماركس تحدد البنية التحتيّة البنية الفوقيّة، لكن علاقتها ليست سببيّة تمامًا، لأن البنية الفوقيّة غالبًا ما تؤثر على البنية التحتيّة، إلّا أن تأثير البنية التحتيّة هو الأهم. 
قدّم ماركس (1818-1883) تعريفه للمجتمع المدنيّ على أنّه “حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصاديّة البرجوازيّة، فالمجتمع المدنيّ عنده هو المجتمع البرجوازي، انه فضاء الصراع الطبقيّ، وهو بالتالي الجذر الذي تمخضت عنه الدولة ومؤسساتها المختلفة.  

[3] الأيديولوجيا تعني العقلية أو المعتقد، وبالفكر الماركسيّ تحمل الايديولوجيا معنى سلبيًّا بمعنى اللامفكَر فيه أو نظام المعتقدات القادم إلينا من الموروث والمجتمع ونقبله دون أن نخضعه للمحاكمة العقلية. 

[4] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. ص49.

[5]   جلبير أشقر. (2016). انتكاسة الانتفاضة العربيةأعراض مرضية. بيروت: دار الساقي.

[6] – لويس بيير ألتوسير: فيلسوف فرنسي ولد في الجزائر (1918-1990) ويعد من أهم منظري الماركسية في القرن العشرين. 

[7]  عزمي بشارة.  (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص8 

[8]  عزمي بشارة (2011) محاضرة عن المجتمع المدني في الوطن العربي.
يقصد بالانتماءات الوشائجية: يقصد بها هي الانتماءات ما دون وطنية، أي الانتماء للعشيرة، القبيلة، الدين، الطائفة، القومية. 

[9] علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، ص 134.

[10] عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، 2012، صفحة 9.

[11]  زهير الخويلدي (2020) دولة القانون والمجتمع المدني بين هيجل وماركس.

خامسًا: الحركة النسوية كنموذج للنضال المدني عبر التاريخ

تتنوع الأمثلة عن تراكم التجارب النضالية للمجتمع المدني على المستوى المحلي، وتجاوزها لتصبح قضايا نضال على المستوى العالمي، ليكون المجتمع المدني الحديث ما يشبه منصة عالمية تشاركية عابرة للأزمنة والأماكن، يتم من خلالها خلق القيم الإنسانية العالمية وتعميمها في المجتمعات الإنسانية. 

أبرز وأوضح نضال يمكن ذكره والتطرق إليه في هذا السياق؛ هو نضال الحركة النسوية. حيث أدى عدم الاعتراف بحقوق النساء عقب الثورة الفرنسية، إلى خلق مسار نضالي هادف لتحصيل حقوق المواطنة الكاملة للنساء والتي تمتع بها الرجال دونا عنهن. كان أول تجلياتها في الإعلان الذي صاغته الكاتبة المسرحية والناشطة الفرنسية (أوليمب دي غوج) تحت عنوان إعلان حقوق المرأة والمواطن في أوائل عام 1791، والذي جاء معترضا ومحاكياً لاعلان حقوق الانسان المواطن، وتم صياغة مادته الاولى “تولد المرأة حرة وتظل متساوية مع الرجل في الحقوق. ولا يجوز أن تقوم الفروق الاجتماعية إلا على المنفعة العامة[1]. ولعل هذه الاعلان كان من ضمن ارهاصات ما تم تسميته لاحقا الموجة الاولى للنسوية، التي عقدت أول مؤتمر لها في نيويورك عام 1848، وكان هنالك سعي للاعتراف بحق المرأة بالتصويت والانتخاب، الأمر الذي أدى إلى تتابع الاعتراف بالحقوق السياسية للمرأة في الدول تدريجياً. أما في الموجة النسوية الثانية مع مطلع الستينات، فقد تركز النضال على المساواة ومناهضة التمييز وتحرير المرأة من التنميط في أدوار هامشية. وفي مطلع التسعينات بدأت الموجة النسوية الثالثة لكن هذه المرة في إطار الاعتراف بحقوق المرأة دون أي نوع من أنواع التمييز سواءا كان على لون البشرة أو العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية.


بفعل هذا الضغط والنضال المستمر والمتواصل تحولت المطالبات النسوية إلى جملة من القوانين والمبادئ على المستويين الوطني والعالمي، والتي أصبحت فيما بعد أهم مقاييس تحضر وتقدم الدول، خاصة بعد تبنيه من قبل الأمم المتحدة وتحويله لمسار عمل متكامل، حيث جاء في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة في المقاصد: “تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء”. وفي العام الأول للأمم المتحدة، أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجنة وضع المرأة، بصفتها الهيئة العالمية الرئيسية لصنع السياسات المتعلقة حصرا بتحقيق المساواة بين الجنسين والنهوض بالمرأة. وكان ومن أوائل أنجازاتها هو ضمان لغة محايدة بين الجنسين في مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وعندما بدأت الحركة النسائية الدولية تكتسب زخما خلال السبعينات، أعلنت الجمعية العامة عام (1975) السنة الدولية للمرأة، ونظمت المؤتمر العالمي الأول المعني بالمرأة، الذي عقد في المكسيك. وفي وقت لاحق، أعلنت السنوات (1976-1985) بوصفها عقد الأمم المتحدة للمرأة، وأنشأت صندوق التبرعات للعقد.

في عام 1979، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي غالبا ما توصف بأنها الشرعة الدولية لحقوق المرأة. وتحدد الاتفاقية، في موادها الثلاثين، صراحة التمييز ضد المرأة وتضع برنامجا للعمل الوطني لإنهاء هذا التمييز. وتستهدف الاتفاقية الثقافة والتقاليد بوصفها قوى مؤثرة في تشكيل الأدوار بين الجنسين والعلاقات الأسرية، وهي أول معاهدة لحقوق الانسان التي تؤكد على الحقوق الإنجابية للمرأة. 

وبعد خمس سنوات من مؤتمر المكسيك، تم عقد المؤتمر العالمي الثاني المعني بالمرأة في كوبنهاغن في عام 1980. ودعا برنامج العمل الذي خرج به المؤتمر إلى اتخاذ تدابير وطنية أقوى لضمان ملكية المرأة على ممتلكاتها وسيطرتها عليه، فضلا عن إدخال تحسينات في مجال حقوق المرأة فيما يتعلق بالميراث وحضانة الأطفال وفقدان الجنسية.[2]

وفي عام 2000 تم اعتماد القرار 1325 حول المرأة والسلام والأمن بالإجماع من قبل مجلس الامن وتعد هذه المرة الأولى التي يقوم فيها مجلس الأمن بمواجهة التأثير غير المتناسب والفريد من نوعه للنزاعات المسلحة على المرأة، وكذلك اﻻعتراف بمدى تجاهل مساهمات المرأة في حل النزاعات وبناء السلام. حيث شدد القرار على أهمية مشاركة المرأة على قدم المساواة وبشكل كامل كعنصر فاعل في إحلال السلام والأمن. ويعد القرار 1325 هو قرار ملزم للأمم المتحدة وجميع الدول الأعضاء فيها، كما يشجع الدول الأعضاء على إعداد خطة عمل وطنية (NAP) خاصة بها لتفعيله على المستوى الوطنى.، ولعل أهم النقاط الرئيسية التي تمت صياغة القرار على أساسها هي (المشاركة، الحماية، والوقاية) للمرأة في النزاعات المسلحة.


يوضح العرض السابق واحد من الأمثلة العملية لنضالات المجتمع المدني، ويُبرز واحدة من أهم الأدوار المنوط به القيام بها في المجتمع، وهو النضال لأجل الحقوق والمطالبة بالمساوة، كما أنه يوضح أن النضال من اجل الحقوق هي قضية عالمية لا تقتصر على مجتمع دون أخر. 


[1]  stringfixer (د.ت.) إعلان حقوق المرأة والمواطنه.

[2] الامم المتحدة (د.ت.) المساواة بين الجنسين.

سادسًا: قضايا إشكاليّة في المجتمع المدنيّ المعاصر

يمكن تلخيص اهم القضايا الإشكالية في المجتمع المدني في الدول النامية عموما، وفي سوريا على وجه خاص بعدة جوانب نذكر من أهمها: 

  1. المجتمع المدنيّ المفهوم والدور، والنخبة المدنيّة: 
    • ضبابية المفهوم والدور: بفعل الأدوار المتغيّرة التي يشغلها المجتمع المدنيّ، تبعًا للظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتبعًا لطبيعة المجتمع الذي يعمل به، جعل منه مفهوماً مثيرا للالتباس لأنه أصبح يعني كلّ الأشياء لكلّ الاشخاص، أيّ أنه أصبح إطارًا فضفاضًا يتسع للشيئ ونقيضه، إذ يُستعمل مرةً ضدّ المجتمع الأهليّ وأخرى معه، أو يستعمل مرّة ضدّ السلطة وأخرى معها. ولعل هذا التغير يعبّر فعليًا عن طبيعة وجوده أساسًا في المجتمعات؛ في إطار إحداث التوازن داخل المجتمع ضمن دوره الرئيسي في حماية حريّة وحقوق الفرد؛ بمعنى أننا نجده تارةً يميل إلى المجتمع الأهلي عندما تحاول الدولة ابتلاع المجتمع المدنيّ كما في الدول الاستبدادية والأنظمة الشمولية، أو أنّه يميل إلى الدولة في حال طغيان المجتمع الأهلي على الفرد، كما يحصل أحيانًا في بلد كلبنان يعاني من ضعفِ الدولة تِجاه الطوائف.[1]هذه الضبابية في تحديد مفهوم المجتمع المدنيّ يخلق إشكالاتٍ متعلقةٍ بالممارسةِ المفترضة في حال لم تكن النخبة المدنيّة على وعيٍّ بالدور التاريخي المنوط بها في مجتمعاتها. 
    • أزمة النخبة المدنيّة: لطالما كانت إحدى أهمّ المشكلات التي تعتري المجتمع المدنيّ كمساحةٍ رائدةٍ، هي النخبةُ المدنية إن صحّ وصفها، والتي تنبثق بالدرجةِ الأولى من ضعف الفهم العميق لجوهر الدور أو الأدوار التي يجب أن يلعبها المجتمع المدني بحسب الظروف القائمة. وهذا يُفهم في سياقين، الأوّل هو الأنظمة السلطوية التي ضيّقت هامشَ الفضاءِ العام التداولي في المجتمع بالقوةِ، ما ترتب عليه من إفتقار المجتمع المدنيّ إلى الممارسة العملية لأبسط حقوقه في الاجتماع والتداول حول القضايا التي تهمّه، ولعل ممارسات الدولِ الدكتاتورية لم تقف عند هذا الحدّ فقط، وإنما تعدّتها لتزييف الوعي عبر دعاية ممنهجة ترسّخ أفكار العمالة للخارج والخيانة لكلِّ من يعمل في المجتمع المدنيّ، إلى جانب خلق سلسلة من التنظيمات والاتحادات التابعة لها كإطارٍ مقبول لها يعمل على استيعاب الأفراد وتكييفهم تحت سقف السلطة

      أمّا السياق الثاني هو سوق التمويل العالمي للمنظمات غير الحكومية لدول العالم الثالث المتعثرة تنمويًّا، والتي أبرزت القطاع المدنيّ كقطاعٍ للعملِ أكثرَ منه قطاعًا لحماية الحقوق والحريات الفرديّة، وهذا الأمر إن ترافق مع الضعف في فهم الدور الحقيقي للمجتمع المدنيّ سوف يسهم في التفريغ شبه التام لمضمون المجتمع المدنيّ كقوّة نقديّة محركةٍ للمجتمع، وتصبح المنظمات المدنيّة منفذًا أعمى لأنشطةٍ ومشاريعَ قد لا تسمن ولا تغني من جوع. 

      هذا الإطار يطرح علي حرب تساؤلًا مفاده: “هل ما زال المثقفون يملكون المصداقية لكي يقودوا الناس نحو بناء المجتمع المدنيّ، التجربة تثبت أنهم يطرحون شعارات لا يقدرون عليها أو يعملون على انتهاكها. وبذلك همْ لا يختلفون عن الأنظمة التي يطالبونها، كما لاحظ ذلك البرازيلي ماركوس أحد قادة حركات التحرّر، وهكذا يشعر المرء بأن دعاة المجتمع المدنيّ يدافعون عن شعارهم بنصب المتاريس وإثارة الحواجز فهذا هو المسكوت عنه في كلامهم، وهذا هو اللاشعور المعرفي في انتقاداتهم، أنهم يتحدثون عن المجتمع المدنيّ وكأنهم يملكون مفاتيح الحقيقة والسعادة.  وهذا يقود إلى أن يصبح شعار المجتمع المدنيّ لا صدى له ولا رنين بين الشباب أو وسط شرائح المجتمع؛ فهو لم يعد النموذج الذي يشرح ويفسر أو يعبئ ويحرك. وهو ما يحدث في سوريا ولبنان، فالشعار يدور في أوساط النخب ولا يحرك قوى على ساحة المجتمع أو في هوامشه مما يجعل منه عملةً رمزيةً غير رائجة، وذلك وجه من وجوه المأزق.[2]
  2. المجتمع المدنيّ والمجتمع الأهليّ: 
    المجتمع الأهليّ لغةً يحيل إلى الأهل أي إلى العائلة والعشيرة، والمذهب، والحيّ، والحارة. فهيئات المجتمع الأهليّ هي المجالس والجمعيات العشائرية والقبلية والعائلية والمذهبية ومجالس الأحياء ومشايخ ووجهاء الحارات. ومن أهمّ الأمثلة على المجتمع الأهليّ هو ما يورده (حنا بطاطو) في كتابه تاريخ العراق بأنها مجالس الأحياء التي كانت لا تزال سائدةً في المدن العراقية حتى أوائل القرن العشرين، ويضرب مثلًا على ذلك مدينة النجف ويقول إنها كانت في عام 1915 تتألف من أربع أحياء ولكل حيّ دستوره ومجلسه ونظام علاقاته مع الأحياء الأخرى في المدينة. فالمجتمع الأهليّ بدون شك كان يلعب دورًا إيجابيًا وعاملَ توازن يسهم في حماية الرعيّة في إطاره المحدود إزاء ظلم وتعسف واستبداد الدولة العثمانية.[3]

    أما المجتمع المدنيّ فعلى النقيض من ذلك هو مجتمعُ الأفراد المواطنين بصفتهم المواطنية، القادرين على الدخول فيما بينهم بعلاقاتٍ تعاقديّةٍ قائمةٍ على مصلحةٍ سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. والهدف هو الصالح العام للمجتمع، بما هو تجاوز لانتماءاتهم الأهلية الأولية. وهذا يعني أن الشرط الأول للمجتمع المدنيّ هو وجود الدولة التي تعطي صفة المواطنة لأفرادها، وتعمل على حماية حرياتهم وحقوقهم ومصالحهم، وتصبح العلاقة الأقوى داخل المجتمع هي علاقة فرد مواطن بالدولة. 

    تتبدى الأزمة في المجتمعات العربية -بالرغم من وجود الدولة الحديثة (كهياكل ومؤسسات) – في السلطة الاستبدادية، المتوغلةِ لدرجةِ التماهي مع مؤسسات الدولة، لتصبح الدولة -محتكر القوة والعنف الوحيد- إلى أداة قمع للحريات ولكلّ ما لا يسر خاطر السلطة، وتتحول إلى ما يشبه الغول الذي يخيف المجتمع (مجازًا)، وهو ما يدفع الأفراد إلى الإحتماء منها، عبر تفعيل العلاقات الوشائجية الموروثة كالعشيرة والعائلة والطائفة في مواجهة هذا التغول.

    في هذه المجتمعات يواجه المجتمع المدنيّ تحدّياتٍ جمّة من ناحيتين؛ الأوّلى: من ناحية مواجهته للسلطة الاستبدادية حتى بناء دولة المواطنين. والثانية مواجهة البنى التقليدية للمجتمع التي سوف تمنع بالمقابل بناء دولة المواطنة؛ كون ذلك سوف يضعف من سلطتها لصالح حريّات وحقوق الأفراد المواطنين. 

    ويجدر التأكيد هنا إلى أن المجتمع المدنيّ هو ليس مناهضًا للمجتمع الأهلي، بل هو يشترك ويتقاطع معه في الكثير من الأمور، فالعاملين في المجتمع المدنيّ هم بالأصل أعضاءٌ في جماعات أهلية، لكن الأساس في عمل المجتمع المدنيّ هو نقل المجتمع من مستوى بناء العلاقات على أساسٍ تقليدي إلى علاقات على أساسٍ مواطني، بما يخدم التنوع القائم أساسًا في إطار الدولة الحديثة، وبما هو حفظ لحريات وحقوق الأفراد المواطنين.
  3. المجتمع المدنيّ وعلاقته بالسياسة والديموقراطية والسلطة:
    • المجتمع المدنيّ والسياسة:
      جوهر العمل المدنيّ هو سياساتي بالضرورة، فالمجتمع المدنيّ يمارس السياسية لإحداث التوازن كما أسلفنا ذكره، عبر الحشد والتنظيم والمطالبات والاحتجاجات والثورات؛ وهي كلّها أفعالٌ سياسيّة؛ لكن ما يميزها أن هدفها هو الصالح العام، وأي عمل مدنيّ خارج إطار العمل السياسي هو عمل مفرّغ من مضمونه الحقيقي. فالمجتمع المدنيّ بكافة أشكاله التنظيمية، بمثابة مشاركٍ في تأطير مسائل السياسة العامة وسجالاتها، لذلك يجب أن يتمتع بحقّ التعبير بحريّة بكل ما يتعلق بالشؤون ذات الأهمية العامة بما في ذلك التشريع أو ممارسات الدولة وسياساتها. وعلى نحو مماثل، يجب أن يتمتع بحقّ انتقاد المسؤولين الحكوميين والمرشحين لتولي المسؤوليات العامة (أو بحقّ إطرائهم) ولا يجوز أن يكون هنالك أي قيود على الحقّ في ممارسة الأنشطة السياسية العامة، كالتعليم والبحث والمدافعة ونشر المواقف.[4]

      وفي نفس السياق إن طرح مفهوم المجتمع المدنيّ بمفهومه “المتأخر” في المجتمعات التي لم تقم فيها النظرية السياسية على اعتبار المجتمع تعاقد بين مواطنين أحرار وبين الدولة كنتاجٍ لهذا التعاقد وخاضعة له، قد يعني عمليًا هروبًا من المعركة السياسية لدمقرطة الدولةِ إلى مؤسساتٍ غير حكومية تهدف إلى الاستقلال عن الحكومة، كأنها تعيش في دولة ديمقراطية بدلًا من الصراع مع الحكومة من أجل الديمقراطية[5].
    • المجتمع المدنيّ والديموقراطية:
      الديموقراطية باعتبارها أرقى أشكال الحكم الذي توصّلت إليه المجتمعات البشرية، وباعتبارها نتاجًا لنضالات الشعوبِ التي ثارت وطالبت فيما طالبته بأنظمة حكم تستند في شرعيتها إلى الشعوب، وتضمن مشاركة سياسية أوسع، وهذا ما يبيّنه العرض التاريخي في الجزء الأوّل من هذا الدليل. إذ أنّ هذه الثوراتِ أنهت النُّظمَ السياسية القديمة الحاكمة، وأنتّجت مفهومَ الدولة الحديثة في القرن السابع عشر، وأبرزت المجتمع كقوةِ فاعلة له رأيه ومطالبه في مواجهة السلطة، ومن هنا نتج مفهوم المجتمع المدنيّ “مجتمع المواطنين الأحرار”. بكونه “صيرورة نحو الديموقراطية” كخطوةٍ أولى، وهو الحامي لها بعد تشييدها كخطوةٍ لاحقةٍ، فهو -أي المجتمع المدنيّ- في علاقة عضوية وتشابكية مع الديموقراطية، يسعى إليها، ومن ثم يعمل على حمايتها وتطويرها واستدامتها. 

      وبالرغم من أن نشوء الديمقراطية يفترض نظريًّا وجودًا مسبقًا وعملًا جيليًّا متصلًا للمجتمع المدنيّ، لإنجاز المهمة الثورية الاستراتيجية المتمثلة في بناء قطبٍ تقدميّ في المجتمع، يحمي الحريات العامة ويكرسها، كما ينجز إجرائيًّا مقدماتِ التحوّل الديمقراطي عبر رعاية ومواكبة العملية السياسية، إمّا بتكريس ثقافة الرأي الحرّ عبر الممارسات الديمقراطية في المنظمات أو عبر المراقبة، أو رعاية الانتقال الديمقراطي مباشرة في بعض الأحيان كما حصل في تونس عندما قادت الرباعية (المؤلفة من أكبر أربع تنظيمات نقابية ومدنية) الحوار الوطني بين الأطراف السياسية بعد استعصاء سياسيّ. إلّا أنّ ذلك لا يعد شرطًا لنشوء الديموقراطية، فالمجتمع المدنيّ هو نتاج للديموقراطية وليس قاعدتها، واعتباره كشرطٍ مسبقٍ لتحقيق الديموقراطية في المجتمعات يعدّ إرباكًا وخلطًا للمفاهيم.[6]

      فتطوّرُ المجتمع المدنيّ كقطبٍ مستقل في سياساته وأنشطته، حدث بالتماهي مع تاريخ تطوّر الديمقراطيات الغربية والدساتير العلمانية التي تقرّ للفرد بحرياته الأساسية. هكذا، فإن المجتمع المدنيّ من هذا المنظور يشكّل أداةَ إصلاحٍ سياسي بدائلي مضاد للشمولية، ورديفٍ للمجتمعات المحلية يدعم الاستقلال واللامركزية، ويقوم بجهودَ على صعيد الإغاثة الإنسانية في حالات الحروب والكوارث.
    • المجتمع المدني والسلطة:
      الأهمية المتزايدة للمجتمع المدنيّ كطرفٍ فاعل ويعتدّ به في التنمية، جعل منه شريكًا في تنفيذ أجندات التنمية الشاملة الممولة دوليًا ومن جانب حكومات الدول الكبرى. وهو ما لم يرق للحكومات في دول العالم الثالث التي نظرت إلى المجتمع المدنيّ بتوجّس واعتبرته حصان طروادة وأداةً للاستعمار والهيمنة غير المباشرة، ما جعلها تناصبه العداء كما في السجال الذي دار في مصر بُعيد الثورة المصرية على خلفية التمويلات الأمريكية لمنظمات المجتمع المدنيّ المصرية في عام 2011 حيث رفضت القاهرة إشراك ممثلينَ عن المجتمع المدنيّ والقطاع الخاص في إدارة صندوق المساعدات الأميركية.[7]

      ولعل مسألة الحصولِ على التمويل ليست هي العاملَ الوحيد في هذا العداء، وإنّما الدور السياساتي الذي يُفترض أن يضطلع به المجتمع المدنيّ، في المساءلة والمراقبة ومكافحة الفساد، إلى جانب السعي لتحقيق أنظمةٍ أكثرَ عدالةً وتمثيلاً؛ وهي كلها مساحات لا تسمح الأنظمة السلطوية في وجودها بشكل حرّ، لأن ذلك يهدد سلطتها “منقوصة الشرعية”، حيث تسعى بكل الوسائل الممكنة إلى محاربة وجود الحيز المدنيّ، والذي وصل في بعض الدول؛ كما في سورية إلى محاربة حتى تداول مصطلح “مجتمع مدنيّ”، حيث حرصت في جميع الأدبيات والقوانين إلى تفادي ذكرها في بادئ الأمر، حيث لطالما استبدلتها بمصطلح المجتمع الأهليّ، والجمعيات الأهلية. ومع الاهتمام الدولي المتزايد بالمجتمع المدنيّ بدلت استراتيجيتها واعتمادت أسلوب خلقِ جملة كبيرة من المنظمات وإلحاقها بالسلطة لتكون أداةَ السلطةِ في مخاطبة المجتمع الدوليّ من جهة، وأداةَ تزييفٍ لإرادة المجتمع من جهة ثانية، وهذه المنظمات غالبًا ما تكون مستقلة (شكلًا) عن السلطة وتوجهاتها، وملحقةً بها (مضمونًا وجوهرًا). 

      ومن الناحية الأخرى لا يجب أن نغفل عن ذكر مثال مهم عن علاقة المجتمع المدنيّ بالسلطة في الشرق الأوسط، وهو المثال التونسي، حيث بالرغم من محاولات السلطة السيطرة على المجتمع المدنيّ إلا أنّها لم تستطع القضاء تمامًا على استقلالية النقابات والاتحادات والجمعيات، ولذلك كنا نرى بين فترة وأخرى انتفاضة تحدث: ثورة الخبز في تونس العاصمة في أواسط الثمانينات، الاحتجاجات على رفع سعر السميد قبل شهر رمضان، وأكبر هذه الاحتجاجات انفجرت في 17ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بو زيد بعد أن أضرم بائع الخضار المتجول الخريج الجامعي محمد بوعزيزي النار في نفسه، وكانت هذه الحادثة شرارةَ ثورةٍ عارمةٍ عمّت تونس أودت بحقبةِ زين العابدين بن علي الاستبدادية[8].  

الرباعية التونسية ورعاية الحوار الوطني:

حصلت الرباعية التونسية الراعية للحوار على جائزة نوبل للسلام 2015 والتي تشكلت الرباعية من أربعة منظمات: الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في صيف 2013، بينما كانت عملية الانتقال إلى الديمقراطية تواجه مخاطر نتيجة اغتيالات سياسية واضطرابات اجتماعية على نطاق واسع. قادت هذه الرباعية وساطة، وقامت بتنظيم “حوار وطني” طويل وصعب بين الإسلاميين ومعارضيهم وحملتهم على التوافق لتجاوز شلل المؤسسات. وبحسب لجنة نوبل للسلام أطلقت الرباعية عملية سياسية بديلة وسلمية في وقت كانت فيه البلاد على شفير حرب أهلية”. ووصفت هذه الوساطة بأنها كانت “حيوية” وأتاحت لتونس الغارقة في الفوضى “إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان بدون شروط تتصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني”.

(DW، 2015)


[1]  علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول، ص 132.

[2]  علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول، ص 143

[3]  نقولا زهر. (23 01, 2011). هل من فرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي؟ تم الاسترداد من الحوار المتمدن

[4] يون إي. آيريش، روبرت كوشين، كارلا دبليو. سايمون. (1997). دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني. تم الاسترداد من دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني، ص 59.

[5] عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 67.

[6]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 66.

[7] – اعتبرت واشنطن «تخوين» المنظمات الممولة أميركيا «تصعيدا غير مبرر». وفي نفس السياق نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز في تعليق لها أن جهود الولايات المستمرة لتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في مصر «ينظر إليها بشكل خاطئ». وأشارت إلى أن المجلس العسكري صور الجماعات التي تحصل على التمويل الأميركي وكأنها تعمل لحساب حكومة أجنبية. وذكرت أن المجلس خاض معركة وراء الكواليس عدة شهور، لمنع واشنطن من إعطاء الأموال إلى الجماعات المؤيدة للديمقراطية خارج نطاق الإشراف المباشر للحكومة المصرية. (هويدي، 15)

[8]  نقولا زهر. (23 01, 2011). هل من فرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي؟ تم الاسترداد من الحوار المتمدن.

المقدمة

مِن الأهمية دراسة تطوّر مفهوم المجتمع المدنيّ في سياقٍ جدليّ؛ يأخذُ بالاعتبارِ تطوّرَ المجتمعاتِ الديمقراطيةِ الحديثةِ وانتشار مفهومِ سيادة القانون، بالتوازي مع تكرّس الاتجاهات الفكريّة والفلسفيّة الأكثر رسوخًا في الوعي الإنساني حول العلاقة بين الدولة والمجتمع. ابتداءً من فلاسفة عصر التنوير الأوربيّ مرورًا بالفلسفة الهيغليّة، وصولًا إلى الانعطافة الغرامشيّة التي أثّرت ورسّخت، بل وقامت بتأطير مفهوم المجتمع المدنيّ، بمقابل الدولة الحديثة. 

وبالتوازي يستعرض أهمّ الأحداثِ والثوراتِ والاحتجاجاتِ التي أسهمتْ في بلورة المفهوم كممارسةٍ عمليّة للشعوب، وفقَ سياقٍ زمنيٍّ تسلسليّ يرسم للمفهوم إطارًا نظريًا وعمليًا في آنٍ معًا. مع الإشارةِ إلى أنّ هذا التقسيم للمراحل ما هو إلا تعبيرٌ عن أهمّ المراحل في بلورة التعريف وتأطيرِ المفهوم في الفكر السياسيّ والاجتماعيّ. 

وقبل الخوض في غمار استعراض النظريات الحديثة التي تناولت المفهوم الحديث للمجتمع المدني، من الأهمية بمكان ولضرورة الفهم المتصل زمنياً، الإشارة إلى أن أول ظهور للمجتمع المدني كان في الفلسفة السياسية اليونانية، وبالتحديد لدى كل من أفلاطون وارسطو، الذين تناولوا بالنقاش المفهوم في سياق النظرية السياسية اليونانية حيثما المجتمع مقسم إلى طبقات ثلاث: (احرار وهم المواطنون الذكور، العبيد من ليس لهم أي حقوق، والأجانب المقيمين ممن لهم حقوق محددة). 

أولًا: المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية القديمة

نظر أفلاطون الى المجتمع المدني من خلال الدولة بصفتها تجسيدا للحياة الأخلاقية، حيث عدَّ القانون وازع أو ضمير أخلاقي للمواطن. ويتأسس المجتمع المدني لديه على الاعتراف بالتنوع والفهم العميق لتقسيم العمل، فهو مثل جسم الإنسان أو طاقم السفينة يتألف من عناصر مختلفة لها مهارات متنوعة وتؤدي مهمات مختلفة. وهذا التقسيم القائم على الاستعدادات الطبيعية يقع في قلب نظرية أفلاطون عن العدالة والسياسة؛ فلا يتحقق التوازن والاستقرار إلا حين يقوم كل فرد بالوظيفة المنوطة به. فإذا كانت العدالة توازناً وصحة، فإن الظلم تنازع والتحلل فوضى، ويمكن أن تعزى أعمال الشغب كلها إلى عجز الأجزاء المكونة للدولة عن أداء أدوارها بالاستناد إلى طبيعة وظائفها.

أما السبب الرئيسي في دمار المجتمع -بحسب أفلاطون- فهو المصالح الخاصة والأنانية، التي يمكن أن تفتت الروابط التي تشد مفاصل المجتمع المدني معاً، فالغنى ينتج الرفاهية والعطالة، والفقر ينتج معايير واطئة للمعرفة والعمل والسلوك. بهذا المعنى (الغنى والفقر) كلاهما نزعتان هدامتان. ولا شيء أخطر على وحدة المجتمع وتماسكه، في نظر أفلاطون، من الفوضى التي تولدها مراكز ثقل مختلفة تدور حول الاهتمام الأناني بالذات. والامر ذاته ينطبق على الطموح والجشع والتخاصم والتنافس التي تشكل تهديدات ثابتة للمجتمع المدني، لأنه من الصعب التحكم في الأهواء الخاصة بعقوبات خارجية، في حال غياب الالتزامات المشتركة. فالمجتمع المدني بحسب أفلاطون يعتمد في النهاية على أنماط ثابتة من الفكر، لا على العقوبات والقسر. فالمجتمع المدني يجمع الحقيقة والخير والجمال، مع المعرفة والقوة والدولة.


شاطر ارسطو أفلاطون فهمه لكون الصلات الإنسانية تتجذر في الحاجة المادية، وتقسيم العمل يقع في صميم المجتمع المدني، الذي هو عبارة عن جماعة منظمة سياسياً. لكنه انتقد فكرة الوحدة بمعنى التجانس التي نادى بها أفلاطون، ورأى أن المدينة هي المقولة الوحيدة التي يمكن ضمنها أن نفهم الحياة المشتركة للمواطنين خارج العائلة. فالمدينة تقتضي بالضرورة تفاوتاً في القدرات بين أعضائها، الأمر الذي يمكّنهم من أن يخدموا بعضهم بعضاً، ويحققوا حياة أسمى وأفضل عبر تبادل خدماتهم المختلفة. حيث جاء في كتابه “السياسة” قوله: “أولاً، تبين لنا الملاحظة أن كل مدينة أو دولة إنما هي ضرب في ضروب الاجتماع؛ وتبين ثانياً، أن كل الجماعات تتأسس من أجل تحقيق نوع من الخير؛ ذلك أن الرجال جميعهم يمارسون أفعالهم بغرض تحقيق ما هو خير من وجهة نظرهم”. والغاية من المدينة حسب ارسطو هو العيش بصورة جيدة، لا مجرد العيش، والدولة توجد من أجل تعزيز المصلحة العامة؛ فهي تجمّع فريد في نوعه.

بصورة مختصرة نظر الفكر الكلاسيكي اليوناني إلى المجتمع المدني من زاويتين مختلفتين لكنهما متكاملتان: الأولى سياسية مفادها اعتبار المجتمع المدني جماعة سياسية منظمة، والثانية أخلاقية المجتمع المدني كونه جماعة تنظمها القيم الأخلاقية لا سيما العدالة بصفتها أم الفضائل، باشتمالها على الحرية والمساواة. ولعل هذه المقولات والأفكار والمفاهيم التي تمت مناقشتها في الحضارة اليونانية ومن ثم الرومانية، سوف تكون حاضرة في التفكير الجمعي العام لدى فلاسفة ومفكري عصر النهضة الاوربية، الذين أعادوا إنتاجها نقديا وقدموا فهما جديدا لها في ضوء النظام السياسي الجديد[1]، وهو ما سوف يتم استعراضه في الفقرات اللاحقة.


[1] جاد الكريم جباعي (2020) محاضرة حول مفهوم المجتمع المدني ضمن المساق التعليمي: المجتمع المدني-المجتمع السياسي و”الدولة الوطنية”، همزة وصل.

مقدمة

يركز هذا الجزء من الدليل على البعد التقني لمنظمات المجتمع المدني الشكل الأكثر تنظيما منه. إذ يستعراضَ الخطوطِ العامة لمنظمات المجتمع المدني غير الحكوميّة، تعريفها مجال أنشطتها، السّمات العامة لها والركائز الأساسية المستندة إليها، إلى جانب الأقسام الإدارية الرئيسية التي تسير أنشطتها وأعمالها. 

وتجدر الإشارة إلى أن المنظماتِ غير الحكوميّة تُعتبر أحد الأشكال التنظيمية المقوننة للمجتمع المدنيّ، بينما المجتمع المدنيّ كنطاق يتعدها إلى أشكال ونماذج واسعة الطيف متنوعة الأنشطة، ذات هيكليات غير تقليديّة، واتي يدخل ضمنها: الفرق التطوعية، والمبادرات المدنية، والجمعيات، والنقابات\الاتحادات المهنية… الخ. 

بناء هويّة المؤسسة:

وتعتبر بمثابة خارطة الطريق التي سوف تحدّد وتركّز أنشطة المنظمة ومساحات عملها وأنشطتها، وتساعدها على العمل بشكل ممنهج نحو التغيير الإيجابي الأمثل الذي وُجدت من أجله. عادةً يتمّ بناء هويّة المؤسسةِ وفق منهجيّةٍ محدّدةٍ يُطلق عليها مصطلح “الخطة الاستراتيجية” والتي هي عبارة عن خطوات محدّدة، يتمّ إنجازها وفق أدواتٍ معينة على عدّة مستويات، داخلي مع الفريق المؤسس والأعضاء، وخارجي مع الفئات المستهدفة والمجتمع.


أهمّ سمات الخطة الاستراتيجية:

  1. أن تكون متصلةً مع الواقع، وتحاكي القضايا المطروحة في المجتمع، وتُبنى هذه العناصر بالضرورة بالتشارك بين مجموع الأفراد المشتركين بالفكرة كمرحلةٍ أولى لخلقِ توافقٍ وتجانسٍ بالرؤية بين الأعضاء المؤسسين من جهة. وبينهم وبين المجتمع أو أصحاب المصلحة من جهةٍ أخرى، وهو ما يجعل المؤسسة تنتمي بشكل فعليّ إلى مجتمعها واحتياجاته وتغيراته. 
  2. أن تسير وفق منهجيّة محدّدة زمنيًّا، بالاعتماد على أدوات التخطيط الاستراتيجي[1] في جمع المعلومات وإدارة النقاش، وبناء التوافقات المُرضية لجميع الأعضاء. 
  3. أن تكون شاملةً، وطويلة الأمد ومستمرةً، يقوم بها الأعضاء القادة في المنظمة الممثلين بمجلس إدارة المنظمة، وتحدًد هذه العملية مساراتِ التغيير وطرق الوصول إلى الأهداف بعيدة المدى.
  4. أن تجيب بمكوناتها المختلفة على سبعةِ أسئلةٍ رئيسيّة تحتاج أيّ مؤسسةٍ أن تبني توافقًا حولها سواء داخل المؤسسة أو خارجها: (سبب وجود المؤسسة؟ لمن تتوجه المؤسسة؟ ماهي نقطة البداية عند إعداد الخطة؟ ما هو التطوّر المنشود من خلال تنفيذ الخطة؟ ما الذي ينبغي أن تفعله المؤسسة لتصل إلى هذا التطوّر؟ ما الذي تحتاجه المؤسسة للوصول إلى هذا التطوّر؟ كيف سنحدد مدى نجاح الخطة؟) بالإجابة على هذه الأسئلة تُبنى مكونات الهويّة لمؤسسات المجتمع المدنيّ المؤلفة من:
    • الرؤية (Vision) والتي هي الطموح البعيد الأمد أو التغيير الذي تبتغي المؤسسة تحقيقه في قضية ما. وتُشتقّ منها الرسالة (Mission) والتي هي: وثيقة مكتوبة تمثّل دستور المؤسسة، والمرشد الرئيسي لكافة القرارات والجهود التي تنفذها، وهي بيان مكتوب يوضح اتجاه المؤسسة، وغرض وجودها، والمشكلة التي تسعى إلى حلها، وأيضا المساحة الجغرافية لعملها، والوظائف التي تؤديها. 
    • وتتبع ذلك تحديد القيم الأساسيّة (Value) التي تعمل عليها وبها المؤسسة، والتي يجب أن تكون على اتصال مباشر بمجالِ أنشطة المؤسسة. ومن ثم صياغة الهدف الاستراتيجيّ أو الهدف العام، وهو بعيد المدى ويتمّ اشتقاقه من الرؤية، وتتمّ صياغته على شكل فعل تسعى المؤسسة لتحقيقه.[2]  
    • وأخيراً نظريّة التغيير (Change of theory): هي الأفكار والفرضيات حول كيفيّة إحداث التغيير. وهي ترتكز على المعتقدات الشخصية والفرضيات والحدود الضروريةِ والتصوّر الشخصيّ للواقع. بمعنى آخر إنّها تشكّل إطارًا توجيهيًّا لجميع مراحل التفكير والعمل وإضفاء المعاني على التجارب عندما نتدخّل عن عمدٍ في مسارات تغيير اجتماعيّ ما.[3] فعلى سبيل المثال نفترض وجود منظمة نسويّة تعمل على تمكين النساء، بعد تحليلها للواقع وللقضية التي تسعى لتحقيقها وخارطة المعيقات والمؤثرين الفاعلين، توصّلّت إلى أنّ السبب الرئيس في عدم المساواة الجندريّة في المجتمع، هو ضعف المشاركة الاقتصاديّة للنساء، لذلك بَنَتْ نظريتها في التغيير على “أنّ التمكين الاقتصاديّ وما يتعلق به من تأهيلٍ وتدريبٍ وتعليمٍ وتوفيرِ فرصِ العمل، كلّها عوامل أساسيّة وتراكميّة في تحصيل المساواة الجندريّة، الذي يقود إلى تخفيف العنف في المجتمع” لتصبح هذه النظريّة في التغيير بمثابة موجّهٍ لجميع البرامج والمشاريع والتدخلات التي سوف تعمل بها المنظمة في المستقبل.[4]

يوضّح الشكلُ أدناه[5] مثالًا على كيف تكون نظريّة التغيير حاضرةٌ في كلّ تفاصيلِ المشروع في عمل المنظمات من البداية وحتى النهاية، حيث كلّ نشاط يفترض أن يصب في مُخرجٍ محدد، وهذا المُخرج يصبّ في التغيير المنشود. ونظريّة التغيير أيضا تكون حاضرةً في الاستراتيجيات الواجب العمل بها بشكلٍ مسبق، حيثما تفترض المنظمة أنّ اتباع استراتيجيّةٍ محددةٍ سوف يؤدي إلى نتيجةٍ تصب بالهدف الموضوع.


تكمن خطورة عدم وجود هويّة للمؤسسة، في تحوّل المنظمات غير الحكوميّة من قطاعٍ يسعى للصالح العام؛ إلى مجرّد منفذٍ لأنشطةِ وخططِ المنظمات المانحة أو الدوليّة، أو أدواتٍ بيدِ السلطة. وهذا يفرّغهُ من سبب وجوهر وجوده الأوّل، وهو السّعي للصالح العام بما يصون حقوق الأفراد ويحفظ حرياتهم. وهذا ينطوي على مخاطر في إطار تحويله لمجرّد كيانٍ يسعى لالتقاط فرص التمويلِ بغضّ النظرِ عن مدى توافقها مع رؤيته وتوجهاته، أو مجال عمله وخبرته في المجتمع؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعارضٍ قيميٍّ، وهدرِ الكثير من الموارد لنقص الخبرة، فضلًا عن إضعاف قدرته النقدية المطلوب حضورها الدائم والمستمر. 


مثال عملي توضيحي عن هويّة منظمة Hivos الدوليّة :

الرؤية:

تؤمن Hivos إيمانًا راسخًا بحقّ كلّ شخص في العيش بحريّة وكرامة، والتمتّع بفرصٍ متساوية، والتأثير على القرارات المتخذة بشأن التغييرات التي يريدون رؤيتها في حياتهم ومجتمعاتهم وبلدهم.
نتصور عالمًا تُحترم فيه الاختلافات الفرديّة والخلفيات وتُستخدم لتقوية المجتمعات. عالم يتحدّ فيه الناس لتحدي اختلالات موازين القوى التي تسمح بالتدهور البيئيّ وتؤدي إلى تغيّرِ المناخ؛ والتي تتغاضى عن الاستغلال والقمع والإقصاء؛ والتي تديم عدم المساواة بين الجنسين.

الرسالة:

تعمل Hivos من أجل عالمٍ يمكن للناس فيه تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وإطلاق العنان لإبداعهم لبناء مجتمعات عادلة ومستدامة للحياة لأنفسهم وللأجيال القادمة. مهمتنا هي تضخيم وربط الأصوات التي تعزز العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة وتتحدى اختلالات القوة. نقوم بتمكين أصحاب الحقوق المهمشين بشكلٍ خاص لرفع صوتهم والمطالبة بحريّة الاختيار.
تدعم Hivos تطوير حلولٍ بديلةٍ للمشاكل العميقة الجذور بحيث يمكن للأفراد والمجتمعات اتخاذ خيارات مسؤولة وعادلة ضمن الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة التي تخدمُ احتياجاتهم وتحافظ على الكوكب. نحن نربط الأشخاص والمنظمات التي تقدّم بدائلَ لأولئك الذين يبحثون عن حلول في كفاحهم من أجل العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة.

القيم الجوهرية:

نحن نؤمن بأنّ الحياة البشريّة بأشكالها المتعددة ذات قيمة؛ أن جميع الناس يستحقون تحقيق إمكاناتهم الكاملة، مع تحمل مسؤولية الحفاظ على بيئتنا الطبيعية. يؤدي العيش في حريّة وكرامة، مع احترام بعضنا البعض وكوكب الأرض، إلى زيادة رفاهية الفرد ومجتمعات عادلةٍ وحيويّةٍ. قيمنا (الحرية والكرامة، المواطنة المسؤولة، تقرير المصير والتنوّع، المساواة والعدالة، الاستخدام المستدام لموارد كوكبنا).

نظرية التغيير:

تسعى منظمة هيفوس لتحقيق تغيّرٍ هيكليّ ومنهجيّ يمكّن جميع المواطنين -الرجال والنساء على حدٍّ سواء- من المشاركة على نحو فعّال ومتساوٍ في مسارات صنع القرارات التي تحدّد حيواتهم وشكل مجتمعاتهم ومستقبلهم. بناء على ذلك، تنخرط هيفوس وكادر عملها والمنظمات الشريكة في مسارات تغيير مركّبة وشائكة.
يتولّد التغير نتيجة عمليات تجاذب متبادلة ومتزامنة من قبل قوًى اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة متعددةٍ تضمّ الكثير من الأفراد والكيانات. مسارات التغيّر الاجتماعي مركّبة وشائكة وتتميز بحلقات تغذيّة راجعة غير أفقية: أفعالنا الذاتية تتفاعل مع أفعال الأخرين ومع عوامل تأثير لا تعدّ ولا تحصى. هذا الأمر يولّد تفاعلاتٍ لا يمكن توقّعها واستشرافها، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بمحصلات التدخلات التي تسعى للتغّير.


[1] – يمكن الرجوع إلى كتيب التخطيط الاستراتيجي لمنظمات المجتمع المدنيّ، لمزيد من التفاصيل والأمثلة عن كيفية بناء خطة استراتيجية لمنظمات المجتمع المدني. 

[2]  فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية. بيروت: فريريش إيبرت، ص16

[3]  ماريان فان إس. (بلا تاريخ). الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير، ص12

[4] – يمكن الاطلاع أكثر على كيفية بناء نظرية التغيير من خلال دليل منظمة هيفوس لنظرية التغيير (الممارسات العملية لفكر نظرية التغير) في الرابط التالي: https://resources.peopleinneed.net/documents/637-toc-arabic-hivos.pdf

[5] – الشكل مأخوذ من كتاب الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير. ماريان فان إس. (بلا تاريخ). ص37.

ثانيًا: مفهومِ المجتمع المدنيّ لدى مفكري العقد الاجتماعي، والثورة الفرنسيّة

ارتبط التجلي الأول للمجتمعِ المدنيّ بمفهومهِ الحديث، مع ظهور الدولة الحديثة في عصر التنوير الأوربيّ أواخر القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، وهي مرحلةُ التحوّلِ من النظام القديم الذي كانت فيه أوروبا تنتظم في مجتمعٍ مُوحّد تحت سلطة الأمير البابوي، وحيثما الفلسفة السياسيّة السائدة آنذاك تتلخص في مجازين اثنين: يقارن أوّلهما المجتمع بجسد ساقاه الحرفيون والفلاحون على الأرض، ورأسه (البابا) يطاول السماء. ويقارن المَجاز الثاني المجتمع بالأسرة، حيث كما أنّ للأسرة ربًّا غير منازع هو الأبّ، كذلك فإنّ للمجتمع رئيسًا غير منازع هو السّلطان.[1]

ساهمت الثورة الفرنسيّة (كحركةٍ اجتماعيّةٍ) في فكفكة النظام القديم، حيث لم تعدْ طبقة النبلاء قويّةً وموحدةً وقادرةً على حماية النظام، وأخفق رجال الدين في الحفاظ على تماسكهم ووحدتهم، وحدثت تحوّلاتٌ اقتصاديّةٌ في بنية الانتاج والطبقة الاقتصاديّة مع الثورة الصناعيّة الأوّلى[2]، بالإضافة لتحوّلاتٍ اجتماعيّةٍ امتدت إلى القيم الاجتماعية والنسَقِ الثقافيّ. ليتمّ الحديث عن تغييرٍ جديدٍ رافضٍ لما كان سائد سابقًا، 

تبلورت التغييرات الحاصلة بما يخص النظام السياسي والاجتماعي الأوربي عموما، والمجتمع المدني على وجه الخصوص؛ عبر حصيلة نقاشات نوعية من قبل المفكرين والمنظرين في كافة انحاء القارة الاوربية واستمرت على مدار أربعة قرون قبل اندلاع الثورة الفرنسية،[3] وتجمعت خلاصة الأفكار بما يخص الفلسفة السياسية الجديدة للدولة، والمجتمع المدني، في نظريات وأفكار من أطلق عليهم مفكرو العقد الاجتماعي (ميكافيلي، هوبز، لوك، وروسو) [4]


تلخصت أفكار ميكافيلي (1496-1527) في هدم فكرة التفويض الإلهي للحاكم، واقامة السياسة على أسس دنيوية وموضوعية خالصة، والتأسيس لفكرة العقد الاجتماعي. وفي إطار حديث ميكافيلي عن المجتمع المدني أكد على أهمية الالتزام بالصالح العام بين أعضاء المجتمع؛ فبدون عادات الفضيلة المدنية التي تحض الناس على إعلاء الصالح العام، سيكون المجتمع مهددا بالانهيار بفعل ما هو متأصل في الجنس البشري من أنانية طبيعية. 

في حين رفض توماس هوبز (1588-1679) نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ (أي أنه نادى بعلمانية الدولة وانبثاقها من المجتمع المدني بالتعاقد والتوافق)، فالدولة تدين في وجودها وشرعيتها إلى إرادة المجتمع. فهي -أي الدولة- إنسان موضوعي صنعه الإنسان، وهذا الإنسان الصانع هو المجتمع المدني. رفض هوبز النظريات التي قالت بوجود المجتمع المدني قبل تنظيم الدولة، لأن الدولة في نظره انتصار على الطبيعة، وزوالها يؤدي بالضرورة إلى زوال المجتمع أو تفككه. والمجتمع هو ميدان الحياة العمومية والمصالح الشخصية، التي لا يحق للدولة أن تتدخل فيها، وبذلك أقام هوبز التفريقَ النظريَّ بين المجال العام والمجال الخاص. 

أما جون لوك (1632-1704) أعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. وغاية التعاقد الاجتماعي لديه هو الحفاظ على الأرواح والملكية الخاصة، وإلغاء النظام الملكيّ المطلق (أو الفردية الأوتوقراطية \الدينية\) التي لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدنيّ الذي ينطلق من مبدأ الإرادة الحرّة. واعتبر لوك أنا المبدأ الكفيل بتأسيس المجتمع المدني وتنظيمه وتجديد العلاقة بين السلطات المختلفة فيه، هو مبدأ اعتماد الأكثرية، فأساس المجتمع المدني هو الموافقة من جانب غالبية الناس لتشكيل كيان سياسي واحد، ومن هنا لابد من ظهور مبدأ الأكثرية الذي يعد شرطا أساسيا لقيام العقد الاجتماعي وشرطا أساسيا لكل حكومة شرعية بذلك يؤكد جون لوك الدلالة الليبرالية لشرعية السلطة السياسية.

بينما حاول جان جاك روسو (1712-1778) البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ، هي (سلطةُ الشعب). ومأثرةُ روسو الخالدة تأكيده على شرط التلازم النسبيّ بين الحريّة والمُساواة، فلا مكان في عقده الاجتماعيّ لمواطنٍ غنيّ إلى درجةٍ تُمكنهُ أن يشتري الآخر، وفقيرٍ إلى درجةٍ يضطرُ فيها إلى بيعِ نفسه، لقد أدخل روسو عنصر المُساواةِ إلى المجتمع المدنيّ، وبذلك جعل العدالةَ الاجتماعيّة شرطَا للحريةَ.[5]


أبرز المساهمات للمفكرين التي أطاحت بالنظام القديم وبلورت الفكرَ في المجتمع الحديث بكليته [6]

نيقولا ميكافيللي

(1469-1527)

حاولَ البرهنةَ على أنّ البواعث المُحركة لنشاط البشر هي الأنانيةُ والمصالح المادية، فالفرديّة والمصلحة عنده هما أساسُ الطبيعةِ الإنسانية.

نيقولا كوبرنيكس

(1473-1532)

أسهمتْ في تحطيمِ الأيديولوجية اللاهوتية ووضعت الأسسَ الأولى لبداية تاريخ تحرّر العلوم الطبيعية من اللاهوت.

مارتن لوثر

(1483-1546)

أعلن مطالبته بالإصلاح الديني، وأنكر دور الكنيسة ورجال الدين في الوساطة بين الإنسان والله. وكان لهذا دورٌ هامٌّ في فتح آفاق القطيعة بين الدين والدولة، وتعميق تطوّر مفاهيم المجتمع المدنيّ والمُثل السياسية البورجوازية والدولةِ الديمقراطية.

فرنسيس بيكون

(1561-1626)

دعا إلى إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها، وإلى النزعة الشّكيّة فيما يتعلق بكلِّ علمٍ سابق كخطوةٍ أولى نحو الإصلاح وتطهير العقل من الأوهام.

ديكارت

(1596-1650)

ارتكز المذهب العقلاني عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية

توماس هوبز

(1588-1679)

رفض نظريات الأصل الإلهيّ للمجتمع، واستنتج أنّ كلّ سلطةٍ مدنيّةٍ يجب أن تكون انعكاسًا لأصلٍ مجتمعيٍّ دنيويّ، بمعنى ان الدولة تدين في شرعيتها إلى إرادة المجتمع.

جون لوك

(1632-1704)

رفض مفاهيم المجتمع الإقطاعي، وأعلن أنّ الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحريةِ والمساواةِ كمفاهيمٍ أساسيةٍ تحكم المجتمع. والغرض من التعاقد الاجتماعي المحافظة على الأرواح والملكية الخاصة وإلغاء النظام الملكيّ المطلق

شارل مونتسكيو

(1689-1755)

أكدّ على أن الضمانة الأساسية للحرية تكمن في المؤسسات الدستورية الكفيلة وحدها بالحدّ من العسف وكبحه، إلى جانب رفضه للحكم المطلق الذي اعتبره شكلًا مناقضًا للطبيعة الإنسانية، ومناقضًا للحقوق الشخصية وحصانتها وأمنها، ففي “مجال العقوبات، يضع مونتسكيو حدًا فاصلًا بين الفعل وبين نمط التفكير، فالعِقاب يُستحق فقط على الأفعال لا على الأفكار، إذ أن عقاب الإنسان على أفكاره هو امتهان فاضح للحرّية”

جان جاك روسو

(1712-1778)

حاول البرهنةَ على أنّ الوسيلة الوحيدةَ لتصحيح التفاوت الاجتماعيّ، هي في ضمان الحريّةِ والمُساواةِ المطلقةِ أمام القانونِ، ورفض تقسيم السلطة إلى تشريعيّة وتنفيذيّة، واقترح بدلًا منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسيّة الهامة، مؤسسًا بذلك لسلطةٍ مطلقةٍ؛ هي (سلطةُ الشعب)

آدم سميث

(1723-1790)

أول من دشّن القطيعة بين الدولة والمجتمع المدنيّ، من خلال تأكيده على مفهومين: الأمة بدل الدولة، والغنى (أو الثروة) بدل السياسة، بما يعني أن المجتمع المدنيّ هو مجتمع للمبادلات التجارية، فالعمليات الإنتاجية والمبادلات التجارية تتمخض من تلقاء نفسها، وبصورة تدريجية عن حكومة نظامية تضمن للأفراد حريتهم وأمنهم ومصالحهم من دون تدخل الدولة وقوانينها في المجال الداخلي، والتي يقتصر دورها على المجال الخارجي لتأمين أمن الحدود، والقيام بالمشاريع الكبرى التي تعجز عنها المبادرة الخاصة.


اما على المستوى العملي؛ تَجسّد التعبير السياسيّ والقانونيّ الأوّل للمجتمع المدنيّ بشكل واضح وجلّي في إعلان “حقوق الإنسان والمواطن” أعقاب الثورة الفرنسية 1789، حيث كان هذا الإعلان بمثابة التحول الفعلي إلى فكرة المواطنةِ بمفهومها الحديث[7]. وكان هذا الإعلان ردة فعل واضحة عن انتهاكاتُ حقوقِ الإنسانِ التي كانت سائدةً قُبيل الثورة الفرنسيّة. تميّزت هذه الوثيقةُ الفرنسيّة عن غيرها مما سبقها من الدول الغربية، وخصوصًا انجلترا والولايات المتحدة الأمريكيّة بأنها أكثر شموليّةً ووضوحًا بالنسبة لحماية حقوق الإنسان، كما أنها لم تقتصر على حماية المواطن الفرنسيّ فقط، بل اتسع نطاقها لتشمل جميع الناس؛ وركّزت مقدمةُ الإعلان على ضرورة تعريف الإنسانِ بحقوقهِ وتذكيرهِ بها لأنّ جهل حقوقِ إنسان أو نِسيانها أو ازدرائها هي الأسباب الوحيدة للمصائبِ العامة.[8]


ويُمكن القول إن مفهومَ المجتمع المدنيّ في نقاشات مُفكري عصر النهضة تأسسَ من خلال التركيز على ثلاثةِ قيمٍ رئيسيّةٍ؛ ستشكّل فيما بعد ركائز المجتمع المدنيّ، وهي[9]

  • قيمة الفرد المواطن باعتبارها قيمةً عليا مطلقةً ومقدسةً ولها حقوقٌ مصانةٌ، خاصةً حقّ الحياة وحرمة الجسد والملكيّة، وحريّة التفكير. وعليه واجبات في مقابل الحاكم، وبهذا المعنى أصبح المجتمع المدنيّ تعبيرًا عن وعي الفرد بحقوقه في مواجهة السلطة.
  • قيمة المجتمع المتضامن الذي يتميز بقدرة أفراده على الالتزام بالمستلزمات الأخلاقيّة والقانونيّة الأساسيّة لتأسيس الجماعات المدنيّة. وتحوّلها لقوةٍ فاعلةٍ تتحرك وفق مصالحها في مقابل الحاكم أو السلطة، وتَمظهُرِها كقوةٍ لا يمكن تخطّيها في وقتٍ لاحقٍ من تطوّر النظريّة السياسيّة.
  • قيمة الدولة ذات السيادة، والمستمِدة شرعيَتها في الإدارة والحكم من الشعب، واعتبر السلطة والحقوق الناتجة عنها حقوقًا مشروعةً ومقبولةً. 

مقدمة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789

“إن ممثلي شعب فرنسا مشكلين في هيئة جمعية وطنية قد توضح لهم أن الجهل والإهمال واحتقار حقوق الإنسان هي الأسباب الرئيسة للمصائب العامة وفساد الحكومات وقد قرروا ان يطرحوا في الإعلان هذه الحقوق الطبيعية الثابتة التي لا يجوز الانتقاص منها). لقد عول الشعب الفرنسي كثيراً على الثورة التي حملت لواء الحرية والمساواة بين أفراد المجتمع، وجاءت الإجراءات والقرارات التي اتخذتها الجمعية الوطنية ملبية تماماً لأهداف ورغبات الشعب، فقد كان الشعار الذي رفعته الثورة (الحرية العدالة، الإخاء)، كافي لتحقيق المساواة والرفاهية للشعب، ولم يبق إلا أن تشرع الجمعية الدستور والقوانين التي تحدد حقوق المواطن وتصونها وتحميها من جور السلطة”.


[1]  مصطفى صفوان. (2012). لماذا العرب ليسوا احرارا. بيروت: دار الساقي.

[2] الثورة الصناعية الأولى: بدأت في نهاية القرن الثامن عشر في بريطانيا بعد اكتشاف الألة البخارية، والتحول من الإنتاج اليدوي إلى الإنتاج الآلي، وما لبث أن امتد ليشمل كل أوربا. 

[3] يمكن الإطلاع على ملخص لأهم أفكار الفلاسفة والمنظرين التي أسهمت كتاباتهم بالنهضة الاوربية في الشكل بنهاية هذه الفقرة. 

[4] مفكرو العقد الاجتماعي: وهم المفكرين الذين ناقشوا العلاقة بين الفرد والسلطة في عصر النهضة الاوربية من ناحية تنازل الفرد عن بعض حريته للدولة التي سوف تضطلع بدورها بتولي حماية بقية حقوقه. 

[5]  شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[6] شبكة انتفاضة فلسطين (2016) التطور التاريخي لمفهوم المجتمع المدني.

[7]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

[8]  ميريام أشقر. (د.ت.) إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، الموسوعة السياسية.

[9]  نبراس المعموري. (18 01, 2021) إسهامات المجتمع المدني في العقد الاجتماعي، صحيفة الزمان.


منظمات المجتمع المدني

مقدمة

يركز هذا الجزء من الدليل على البعد التقني لمنظمات المجتمع المدني الشكل الأكثر تنظيما منه. إذ يستعراضَ الخطوطِ العامة لمنظمات المجتمع المدني غير الحكوميّة، تعريفها مجال أنشطتها، السّمات العامة لها والركائز الأساسية المستندة إليها، إلى جانب الأقسام الإدارية الرئيسية التي تسير أنشطتها وأعمالها. 

وتجدر الإشارة إلى أن المنظماتِ غير الحكوميّة تُعتبر أحد الأشكال التنظيمية المقوننة للمجتمع المدنيّ، بينما المجتمع المدنيّ كنطاق يتعدها إلى أشكال ونماذج واسعة الطيف متنوعة الأنشطة، ذات هيكليات غير تقليديّة، واتي يدخل ضمنها: الفرق التطوعية، والمبادرات المدنية، والجمعيات، والنقابات\الاتحادات المهنية… الخ. 

أولًا: تعريف منظمات المجتمع المدني وتاريخيتها

يعتبر تأطير المجتمع المدنيّ بأشكال مُؤسسية؛ مُجاراةً للتطوّرات الحديثة الحاصلة في البنى الاقتصادية والتنظيميّة في العالم، إذ تعد المنظمات بمثابة الكيانَ الاعتباري الذي يَسُهل التعامل معه قانونيًا، وتنظيميًّا وماليًّا من قِبل الحكوماتِ والهيئاتِ والمنظماتِ الدولية المانحة. 

دَخلت تسميةُ المنظمات غير الحكوميّة حيز الاستخدام الفعلي مع الأمم المتحدة عام 1940 التي كانت أوّل من استخدمتها، وعَملت على تعميمها لاحقًا. إذ نظّمت المادتان (70 و71) العلاقة مع المنظمات غير الحكوميّة، فقد لحظت المادة (70) دورًا متقدمًا للوكالات المتخصصة دون إعطائها الحقّ في التصويت على المقترحات والقرارات. أمّا المادة (71) فأوجدت أُطرًا للتشاور ووضع الترتيبات، حيث غَدت المنظمات غير الحكوميّة شريكًا تقنيًّا في أنشطة الأمم المتحدة الدوليّة[1]. هذا بما يخص الوكالات الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة، لكنَ الأمر لم يقف عند هذا الحدّ وإنّما تَعدّاه إلى وجود منظمات لا تتبع للأمم المتحدة، وتعمل بشكل محليّ في جميع دول العالم تقريبًا. 


أَطلقت الأمم المتحدة تعريفها على المنظمات غير الحكوميّة بكونها “مجموعة مواطنين تطوعية غير هادفة للربح يتمّ تنظيمها على المستوى المحلي أو الوطني أو الدولي لمعالجة القضايا لدعم الصالح العام. تقوم المنظمات غير الحكومية الموجهة نحو المهام والمكونة من أشخاص لهم مصلحة مشتركة، بأداء مجموعة متنوعة من الخدمات والوظائف الإنسانية، وتقديم مخاوف المواطنين إلى الحكومات، ومراقبة تنفيذ السياسات والبرامج، وتشجيع مشاركة أصحاب المصلحة في المجتمع المدني على مستوى المجتمع”[2].


تزامن زيادة وتفعيل دور وعمل المنظمات غير الحكوميّة فعلياً؛ مع تطوّر منظور الأمم المتحدة لدورها وتدخلاتها في العالم؛ والتي بدأت كما اوردناه سابقاً على شكل منظماتٍ رعائيّةٍ وخدمية، إلى منظماتٍ تعمل على تحقيق توجهاتِ التنميّة المستدامة، ثم إلى منظماتٍ ساعيةٍ لتحقيق وتعزيز حقوق الإنسان ودفع عملية التغير الهيكلي في الدول المختلفة، وصولًا إلى منظماتٍ تسعى إلى تعزيز الحراك الاجتماعيّ وتعزيز قيمة رأس المال الاجتماعيّ عبر الحدود الجغرافية[3].  

حتى أصبحت أهمّية المنظمات غير الحكوميّة ككلّ -ليس فقط الدوليّة- في العصر الحالي، تَكمن في المُساهمة في تحسينِ إدارة الحكم؛ عبر تعزيز المُساءلة والشفافية في النظام السياسيّ. والإسهام في صياغة السياسات العامة، وحماية الحقوق، والتوفيق بين المصالح، وإيصال الخدماتِ الاجتماعية، وأصبحت المقاربة الجديدة للأمم المتحدة “لا يمكن مواجهة التحديات والتعقيدات اليوم ومعالجتها بدون شراكة بين الحكومات والقطاع الخاص المجتمع المدني والمواطنين على حد سواء”[4].


[1] أماني قنديل (2008) ص71.

[2]  Leverty, S. (2008). American Psychology Association. Retrieved from NGOs, the UN and APA.

[3] أماني قنديل (2008) ص76.

[4]  الأمم المتحدة (د.ت.) برنامج إدارة الحكم في الدول العربية.

ثانيًا: مجالاتُ نشاط منظمات المجتمع المدنيّ

يعمل المجتمع المدنيّ في كافة مناحي الحياة بالعموم، لسدّ الفجواتِ، وخلق التوازن بين المساحات المشتركة وحماية حقوق الأفراد والجماعات على حد سواء. في هذا الإطار عَمِلت جامعة جونز هوبكنز على تصنيف الأنشطة التي يعمل بها المجتمع المدنيّ إلى اثني عشر مجالًا رئيسيًّا للنشاط، ويتضمن البعض منها مستوياتٍ فرعيّة؛ وهي: (الثقافة والإبداع، التّعليم والبحث، الصّحة، الخدمات الاجتماعيّة، البيئة، التنميّة والإسكان، الحقوق والدفاع والمدنيّة، المنظمات الخيريّة، المنظمات الدوليّة غير الحكوميّة، المنظمات الدينيّة (ولها معايير وتصنيف يحكمها) منظمات الأعمال والمنظمات المهنيّة والعماليّة، أخرى لها خصوصية وليس لها مكان في التصنيف[1].

وبالمقابل وفي الإطارِ العملياتيّ والتطبيقيّ الذي تعتمده الأمم المتحدة في تدخلاتها، قسّم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية[2] قطاعات العمل إلى عشر قطاعات: وهي (التعليم، الصّحة، التغذيّة، الأمن الغذائيّ، إدارة وتنسيق المخيمات، اللوجستيات، التعافي المبكّر والتنميّة، خدمات المياه والصرف الصحيّ والنظافة، المواد غير الغذائيّة والمأوى، الحماية وضمنه (حماية الطفل، والمرأة، ومكافحة الألغام، الأرض والمسكن والممتلكات)[3].


بالإطارين السّابق يمكن تصنيف القطاعات التي يعمل بها المجتمع المدنيّ إلى قطاعات رئيسية تضمّ بطبيعة الحال قطاعاتٍ فرعيّة بداخلها، وهي: 

  • قطاع الدفاع عن المصالح المهنيّة: ويضمّ النقابات التي هي تنظيماتٌ تضمّ المشتغلينَ بمهنة، أو حرفة، أو صناعة، أو خدمة. والروابط المهنيّة التي هي تنظيم يضمّ ذوي المواهب الفنية أو العلميّة أو ممّن تجمعهم طبيعةٌ مهنيّةٌ واحدة. والاتحادات المهنيّة: وهي ملتقى النقابات والروابط المهنيّة المكونة له. وتهدف هذه إلى حماية مصالح أعضائها والدفاع عن حقوقهم المهنيّة، ورفع الكفاءة المهنيّة لديهم، وتفعيل دورهم في تأكيد وترسيخ سلطتهم كقوّة فاعلةٍ في المجتمع، والمشاركة مع الجهات الرسميّة في وضع مشاريع القوانين واتخاذ القرارات ذات العلاقة بالعمل في المهن والصناعات والخدمات. 
  • قطاع الإعلام والتّواصل: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف خلق إعلامٍ بديلٍ مستقلٍ يهدف إلى نشر مبادئ حقوق الإنسان ومفاهيم العمل التطوعيّ، واستخدام الإعلام للدفاع عن الحقوق وقضايا المجتمع والتعبير عن مصالحه واهتماماته.
  • قطاع الديمقراطية وحقوق الإنسان: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تعزيز الديمقراطية في المجتمع على مختلف المستويات. كما تنشط كدورِ المراقبِ على عمل البرلمان والحكومة بما يخصّ التشريع والقوانين، وترصدُ أيّ انتهاكاتٍ من الممكن أن تقعَ على الحرّيات والحقوق. ومن جهة ثانية تعمل مع المجتمع من ناحية الدفاع عن حقوق المجموعات الثقافيّة والأقليات والشعوب الأصليّة، بما يُسهِمُ في حماية حقوقهم كمجموعات في مواجهة توغل الأكثريّة، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة، كما تعمل في دور توعيّةٍ وتثقيفٍ وتمكينٍ حقوقيٍّ وسياسيٍّ للأفرادِ، في سياق بناء اتجاه عام حول الحريات والحقوق والمواطنة.
  • قطاع الشفافيّة والحوكمة وسيادة القانون: حيث تعمل منظمات المجتمع المدنيّ في هذا القطاع على مراقبة كلّ عمليات الحكم ومؤسساته، وتقوم بتقييم مدى شفافيتها ونزاهتها أمام الجمهور، كما ترصد القوانين التي من شأنها تقييدَ حرّيةِ الوصول إلى المعلومات أمام عُمومِ المواطنين، وصولًا للدفع باتجاه المُحاسبة والمُساءلة بما يضمن شفافيّةً ووضوحًا من قبل جميع هيئات الحكم في المجتمع.
  • قطاع الدعم القانوني: تَنشطُ من خلاله تنظيماتُ المجتمع المدنيّ بهدف توفير المساعدة القانونيّة للذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التمثيل القانونيّ أو القدرة على الوصول الى النظام القضائيّ والمحاكم، كما تعمل في سبيل تطوير القوانين وتغييرها لتصبح أكثرَ عدالةً وإنصافًا بين الناس وتساهم في توفير الوصول إلى العدالة.
  • قطاع الدّعم الطبيّ والصحيّ: وهو القطاع التي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف توفيرِ الخدمات الصحيّة والطبيّة لأكبرِ عدد ممكن من الناس، وخصوصًا الفئاتِ المهمشة والفقيرة، والذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف هذه الخدمات أو لا يستطيعون الوصول لها، كما تعمل على زياد الوعي الصحيّ لدى أفراد المجتمع والممارسات الصحيّة.
  • قطاع التعليم: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف النهوض بواقع التربية والتعليم في مجتمعاتهم، من حيث المساهمة في عملية صناعة وتوجيه السياسات التربوية والتعليمية، وتعميق ثقافة المواطنة. أمّا في بلدان النزاعات فتضطلع منظمات المجتمع المدنيّ بدورٍ رائدٍ في العملية التعليميّة يصل إلى حدّ إدارتها بالكامل مع انسحاب المؤسسات الحكوميّة في بعض المناطق.   
  • قطاع الصّحة النفسية: وهو القطاع الذي تَهدِفُ منه تنظيمات المجتمع المدنيّ تهيئةَ ظروف العيش والبيئات المناسبة لدعم الصّحة النفسيّة. ويشمل ذلك اتخاذَ طائفة من التدخّلات التي تزيد من حظوظ عدد أكبر من الناس في التمتّع بمستوى أفضل من الصّحة النفسيّة.
  • قطاع حماية البيئة: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلال تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف المحافظة على البيئة وحمايتها من خلال: رصد ما يحدث في البيئة، التقاضي بالنيابة عن البيئة، ومراقبة التشريعات التي تصدر ومن شأنها الإضرار بالبيئة، بالإضافة للعمل على سن قوانين لحماية البيئة من الممارساتِ الجائرة للبشر. إلى جانب العمل التوعوي للمواطنين بأهميةِ الحفاظ على الفضاء المادي لوجودهم. 
  • قطاع حماية التراث الماديّ واللاماديّ: تعمل من خلاله منظمات المجتمع المدنيّ على توثيق الأماكن التراثيّة الأثريّة والعمل على حفظها وصيانتها، ومنع أيّ تعدٍي عليها من أيّ طرفٍ كان، وأيضًا توثيق التراث اللاماديّ من قصصٍ وسيرٍ وأغانيّ وأهازيج ورقصاتٍ تراثيّة…الخ، وحِفظها وصيانتها بما يعبّر عن هويّة المجتمع التاريخيّة. 
  • قطاع التنميّة الاجتماعيّة والثقافيّة: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تنميّة العلاقات بين أفراد المجتمع وفقَ معاييرَ واضحة. وتنميّة الثقافة كركيزةٍ أساسية من ركائز التنميّة.

قطاعاتُ عمل تُعنى بفئات محددةٍ في المجتمع: 

  • قطاع حقوق المرأة: بالاستناد إلى الحيف الواقع على المرأة كفئةٍ مهمّشةِ الحقوق، منقوصةِ المواطنة في المجتمعات، تَنشطُ منظمات المجتمع المدنيّ، ومن ضمنها المنظمات النسوية في الدفاع عن حقوق النساء على كافة المستويات، ابتداءًا من مناهضة جميع أشكال العنف ضدّها داخل منزلها وفي أماكن العمل. وما يتضمنه ذلك من توفير الرعايّة القانونيّة والنفسيّة والاجتماعيّة وأماكن الحماية، مرورًا بتمكين المرأة وتوعيتها بحقوقها كافة، وصولًا إلى تغيير القوانين التي تنتقص من حقوق المرأة كمواطنة في المجتمع، والعمل على سنّ قوانينَ بديلة تحقّق العدالةَ والمساواة لها.
  • قطاع حقوق الطفل: ويهدف إلى ضمان تمتع الأطفال بحقوقهم الأساسية الكاملة، وضمان عدم انتهكاها من أيّ طرف كان، إلى جانب جُملةٍ كبيرةٍ من الخدمات والدعم الذي يُقدّم بهدف تحقيق أعلى مستوًى لتمتع الأطفال بحياةٍ صحيّةٍ ونفسيّةٍ واجتماعيّةٍ سليمة. ويشملُ هذا القطاع جملة كبيرة من التدخّلات في مرحلة الطفولة المبكّرة مثل (زيارة الحوامل في البيوت، والاضطلاع بالأنشطة النفسيّة-الاجتماعيّة في المرحلة السابقة للالتحاق بالمدرسة، والجمع بين تدخلات التغذيّة والمساعدة النفسيّة الاجتماعيّة لصالح الفئات المحرومة)؛
  • قطاع تمكين الشباب: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تنمية معارفهم ومهاراتهم وقدراتهم؛ من خلال العمل معهم وتعزيز قدرتهم على المشاركة في قيادة وتنفيذ السياسات العامة، وذلك ضمن المجالات التالية: (المجتمعيّة، الثقافيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة، النفسيّة، التنظيميّة)
  • قطاع خدمات ذوي الاحتياجات الخاصة: وهو القطاع التي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف حماية ذوي الاحتياجات الخاصة من أيّ تمييز، وادماجهم وقضاياهم كجزءٍ أساسيٍّ من التنمية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات اللازمة لهم، وخلق المساحات الصديقة لهم والتي تساعدهم على تجاوز احتياجاتهم وتعزيز استقلالهم الذاتيّ واعتمادهم على أنفسهم، والوصول للاعتراف بمساهمتهم في تحقيق رفاه مجتمعاتهم، وأنّهم جزءٌ من التنوع الطبيعيّ لهذه المجتمعات.
  • قطاع رعاية المسنين: وهو القطاع الذي ينشط من خلاله المجتمع المدني في رعاية الكبار في السن، وتقديم الخدمات الطبية والنفسية والاجتماعية لهم، إلى جانب خدمات الإيواء والإطعام. 

أمّا في بلدان النزاع، فيضطلع المجتمع المدنيّ بجملةٍ كبيرةٍ من المهامِ الجديدة إلى جانب القطاعات الأخرى، إذ يتحمّل أعباء كثيرة تجاه المجتمع، خاصةً في ظل انسحاب المؤسسات الحكوميّة من الأدوار التقليديّة المنوطة بها، أو ضعف أدائها وانخفاض جودة خدماتها، حيث يبرز دور المجتمع المدنيّ بما يملكه من قدرة ماليّة وتنظيميّة ومرونة في العمل والتنفيذ. تشمل القطاعات التي تَنشطُ بها المنظمات المدنيّة أثناء النزاعات وبعدها إلى جانب القطاعات أنفة الذكر: 

  • قطاع بناء السّلام وإدارة النزاعات: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ في التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم في المقام الأول، إلى جانب دعم المجتمعات لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوءِ إلى العنف. كما تعمل على تعزيز الحواراتِ على مختلف المستويات، و”نقل مشكلات النزاع خارج الوضع السلبي (الذي ينظر الناس فيه لأنفسهم بأنهم مستبعدون أو عاجزون، أو الوضع الذي يفوز فيه أحد الطرفين فقط أو كلا الطرفين يبقيان غير راضين)، إلى بيئةٍ إيجابيّةٍ يعمل فيها الناس معًا للتنبؤ بتلك المشاكل، ولديهم الحافز لحلّها من أجل تحقيق الفائدة القصوى من تعاونهم. 
    وفي النزاعات المسلحة يكون دور المجتمع المدنيّ أشدّ صعوبةً وخطورةً، ولكنّه يضطلع في إمكانية أن يتم بناء السّلام على كافة المستويات بما يشكل العودة إلى وضع التوازن الذي يحفظ حقوق وحرّيات جميع الأفراد، ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك هو الدور الذي لعبته كتلة العمل من أجل السلام في تحقيق السلام في ليبيريا[4] أعقاب الحرب الاهلية الثانية.
  • قطاع الإغاثة الإنسانيّة: تَنشطُ من خلاله تنظيماتُ المجتمع المدنيّ بهدفِ دعم مقوماتِ الحياة للفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع أو الأفراد أو الجماعات الذين اضطروا لمغادرةِ أماكنهم لظروف خارجة عن إرادتهم وتشمل تقديم المساعدة الغذائية وغير الغذائية كدفعِ أجارت المنازل أو إنشاء المخيمات وتقديم السلل الغذائيّة والصحيّة، وغيرها.
  • قطاع التعافي المبكّر والتنميّة: وهي طريقة تلبي احتياجات التعافي التي تنجم خلال المرحلة الإنسانيّة في أيّ حالة طارئة وذلك عن طريق استخدام الآليات الإنسانيّة التي تتسق مع مبادئ التنمية. الأمر الذي يمكّن البشر من جني فوائد الأعمال الإنسانيّة، واقتناص فرص التنميّة وتحقيق القدرة على الصمود وإرساءِ عمليةٍ مستدامةٍ للتعافي من الأزمة، ويشمل التعافي المبكّر أربعةَ أنواعٍ من البرامج وهي: (سبل المعيشة، البنية التحتيّة الأساسيّة والتأهيل، الحوكمة وسيادة القانون، استثمار بناء القدرات لدى الأشخاص).[5]
  • قطاع التعامل مع مخلفات الحرب والتوعيّة بها: تَنشطُ فيه تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف التعريف بمخلفات الحرب غير المنفجرةَ وأشكالها وأحجامها وأنواعها، والأماكن الخطرة، والإشارات والآثار التي تشير إلى وجود مخلفات حربٍ غير منفجرة، وإجراءات السلامة. وذلك بهدف حماية أفراد المجتمع من أضرارها على مختلف المستويات.

وبطبيعة الحال، يجب التنويه إلى أنه لا يوجد قطاعُ عملٍ مستقلٍ عن الأخر، فتحقيقِ الغايات في المجتمع يتطلب مقارباتٍ متعددةِ الاختصاصات ليتمّ الإيفاء بالأهداف التي تسعى إليها منظماتِ المجتمع المدنيّ، ما يفرض ضرورة التشبيك بين المنظمات مختلفة الاختصاصاتِ بما يحقق أعلى كفاءةٍ وفاعليّةٍ بالعمل وتحقيق الهدف المجتمعي.  


تجربة النساء الليبيريات:

نساء ليبيريا كتلة العمل من أجل السلام هي حركة سلام تشغلها النساء في ليبيريا في أفريقيا، عملت على إنهاء الحرب الأهلية الليبيرية الثانية.
بدأت الحركة بآلاف النساء المحليات بالقيام بالصلاة والغناء في سوق السمك يومياً لعدة أشهر. وفي عام 2003 أثناء الحرب الأهلية الليبيرية الثانية، أجبرت نساء ليبيريا الرئيس تشارلز تايلور على لقائهن، وانتزعن منه وعداً بحضور محادثات السلام في غانا للتفاوض مع المتمردين من الاتحاد الليبيري من أجل المصالحة والديمقراطية. وتوجه وفد من نساء ليبيريا إلى غانا لمواصلة الضغط على الفصائل المتحاربة أثناء عملية السلام. نظمت الكتلة اعتصاماً خارج القصر الرئاسي، وشكلن قوة سياسية ضد العنف وضد حكومتهن.
وكانت أعمالهن سبباً للاتفاق خلال محادثات السلام المتوقفة. ونتيجةً لذلك، أصبحت النساء قادرات على تحقيق السلام في ليبيريا بعد حرب أهلية استمرت 14 عاما وساعدن بعدها على تنصيب أول رئيسة امرأة للبلاد، إلين جونسون سيرليف.

(مكتبة نور، بلا تاريخ)



[1]  أماني قنديل (2008) ص70.

[2] يعرف اختصارا OCHA هو مكتب تابع للأمم المتحدة تشكل في 19ديسمبر 1991 بموجب قرار الجمعية العامة 46/182. ويهدف القرار إلى تعزيز استجابة الأمم المتحدة لحالات الطوارئ المعقدة والكوارث الطبيعية من خلال إنشاء إدارة الشؤون الإنسانية (DHA) ، يعد بمثابة هيئة مشتركة بين وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في المجال الإنساني. المنتج الرئيسي هو عملية النداءات الموحدة، وهو الدعوة وأداة للتخطيط لتقديم المساعدة الإنسانية معا في حالة طوارئ معينة

[3] OCHA. (n.d.). humanitarianresponse

[4] -يمكن مشاهدة الفيلم الوثائقي “نصلي ليعود الشيطان إلى الجحيم” وهو فيلم يوثق جهود كتلة العمل من أجل السلام في تحقيق السلام في ليبيريا.

[5]  جهال رابيسهال دي مرتينس، جاني الوري وايت، آن ديفيس، ستوارت كيفورد، سايلك هنادلي. ((2016 INEE

ثالثًا: السمات الضرورية لمؤسسات المجتمع المدنيّ

تتميز منظمات المجتمع المدني عن غيرها من مؤسسات الاعمال الاخرى وفقاً لجملة من العناصر يشكل وجودها ركائز أساسية لتصنيفها ضمن حيز المجتمع المدني، وغياب أي واحدة منها ينبأ بوجود خلل سوف يؤثر حتماً على دورها ونشاطها بشكل أو بأخر، وقد يستبعدها من حيز القطاع المدني غير الحكوميّ، تتلخص هذه السمات بالآتي:

  • أن تكون غير حكوميّة، بمعنى لا صلة لها بالمؤسسات الحكوميّة، باستثناء حصولها على ترخيص منها. واكتسابها الشخصية القانونية، الذي يساعد المنظمة المدنيّة على الدخول في عقودٍ وإيجارات وغير ذلك من المعاملات القانونيّة، وبذلك هي تعد مسؤولة قانونيا عن التزاماتها التي تدخلها.[1] مع الإشارة إلى أن اكتسابُ الوضعية القانونيّة يجب ألّا يكون شرطًا مسبقًا لممارسة حقّ التعبير والتجمع السلميّ. 
  • أن تكون ذات هيكل رسميّ مؤسسيّ، وتتسم أنشطتها بالاستمرارية إلى حدٍّ كبير، وهذا يخرج الحراكات المدنيّة المطلبيّة، أو الأنشطة المؤقتة لأي تجمع مدني من ضمن دائرة المؤسسات المدنية، ولكن بالتأكيد لا يستبعدها من نطاق المجتمع المدنيّ بمفهومه الأوسع. وهنا لابد من الإشارة إلى أن حقيقة إمكانية تشكيل منظمة مدنية بوصفها كياناً قانونياً، لا يعني أن المطلوب من المواطنين تشكيل كيانات قانونية حتى يتمكنوا من ممارسة حريات التعبير والاجتماع والتجمع السلمي. بل على العكس من ذلك، إن معظم المنظمات المدنية هي في الحقيقة كيانات غير رسمية.[2] وأحيانا يشكل الترخيص القانوني عبء على ممارسة النشاط المدني في بعض الأماكن والأنظمة.
  • أن تكون غير ربحية، ولا تهدف للربح، وفي حال مارست المنظمات المدنيّة أنشطة اقتصاديّة أدرّت عليها أرباحًا، فهذه الأرباح تدخل ضمن مصادر التمويل الرئيسيّة للمنظمة وأنشطتها، ولا يتمّ توزيعها على العاملين أو الأعضاء داخل المنظمة. فعلى سبيل المثال؛ بعض المنظمات تقوم بتأجير قاعاتها لمؤسساتٍ أخرى، أو بتمويل\تشغيل مشروع اقتصاديّ كفرن آلي، أو مشروع زراعي، كلّ الإيرادات الواردة من هذه المشاريع تدخل في ميزانية المنظمةِ نفسها وفي خدمة أنشطة أخرى تمارسها المنظمة.
  • ألّا تتبع لأحزاب سياسيّة أو أن يكون لها تحالفات معها، وهنا يجب التمييز بين دور المنظمات السياساتي الذي يمارس السياسة في إطار حماية حقوق وحريات الأفراد، وبين العمل السياسي الحزبيّ الذي يمارس السياسة بهدف وصوله إلى السلطة.
  • غير دينيّة: بمعنى ألّا تأخذ دور التبشير لدينٍ ما، لأنّ الهدف الأساسي للمجتمع المدنيّ هو خدمة المجتمع بغض النظر عن الانتماءات الطبيعيّةِ المولودة للأفراد، فالأساس هو التعامل مع الأفراد على أساس مواطنيتهم وليس دينهم أو مذهبهم أو قوميتهم. 

    وفي هذا السياق تُناقش مسألة غاية في الأهمية، وهي المؤسسات التي تؤسسها عوائل أو عشائر أو أيّ بنًى تقليدية أخرى، وتدعمها لخدمةِ قضيةٍ محدّدةٍ في المجتمع، مثلًا جمعيّةٍ دينيّةٍ تدعم مرضى السرطان، أو منظمةٍ عائليّة تدعم مرضى التوحّد، في أيّ حيّزٍ يمكن تصنيف هذا النوع من المنظمات؟ هل تصنّف من ضمن المجتمع المدنيّ، أم يختلف تصنيفها؟ يمكن القول هذا النوع من المؤسسات يدخل ضمن المجتمع الأهليّ، أو أقرب إليه في حال كانت هذه الجمعيات تتوجه بخدماتها نحو المجتمع ككلّ بغضّ النظر عن الانتماء الطبيعيّ للفرد. وفي مثل هذا النوع من المؤسسات يكون العمل مفرّغًا من مضمونه السياسيّ التغييريّ، ويقتصر على تقديم الخدمات للفئة التي يعمل عليها؛ من غير التطلّع لأيّ تغيير بالبنية السياسيّة أو بالأنظمة والقوانين الناظمة لنفس القضيّة التي يعمل عليها على اقل تقدير، ولعلّ هذا النمط من الجمعيات أو المنظمات هو ما كان يتمّ الترويج له، ودعم وجوده من قبل الأنظمة السلطويّة، أي جمعياتٌ ومنظماتٌ مفرّغةٌ من مضمونها السياسيّ والنقديّ، وهو ما يمس جوهر الدور الذي يجب ان يضطلع به المجتمع المدني في أي مجتمع.

[1]  يون إي. آيريش، روبرت كوشين، كارلا دبليو. سايمون. (1997). دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني. تم الاسترداد من دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني، ص 26.

[2]  المرجع السابق.

رابعًا: الأركان المؤسسية لمنظمات المجتمع المدني

يتوجب أن تمتلك أي منظمة غير حكومية ثلاث أركان ضرورية في إطار عملها المؤسسي، تعد بمثابة المحركات الموجهة والضامنة لسير عمل المنظمة المدنية داخلياً وفق أهدافها المتفق عليها مسبقا، وضمن الحيز المدني الذي تشكل فيه حقوق وحريات الأفراد البوصلة فيه. وهذه الأجزاء هي:
هويّة المؤسسة التي تعد حجر الزاوية – حوكمة المؤسسة الضامن للشفافية والحكم الرشيد – الأقسام الإدارية وهي الجزء التنفيذيّ للأنشطة.


وسنفصل في كل ركن من هذه الأركان أدناه:

بناء هويّة المؤسسة:

وتعتبر بمثابة خارطة الطريق التي سوف تحدّد وتركّز أنشطة المنظمة ومساحات عملها وأنشطتها، وتساعدها على العمل بشكل ممنهج نحو التغيير الإيجابي الأمثل الذي وُجدت من أجله. عادةً يتمّ بناء هويّة المؤسسةِ وفق منهجيّةٍ محدّدةٍ يُطلق عليها مصطلح “الخطة الاستراتيجية” والتي هي عبارة عن خطوات محدّدة، يتمّ إنجازها وفق أدواتٍ معينة على عدّة مستويات، داخلي مع الفريق المؤسس والأعضاء، وخارجي مع الفئات المستهدفة والمجتمع.


أهمّ سمات الخطة الاستراتيجية:

  1. أن تكون متصلةً مع الواقع، وتحاكي القضايا المطروحة في المجتمع، وتُبنى هذه العناصر بالضرورة بالتشارك بين مجموع الأفراد المشتركين بالفكرة كمرحلةٍ أولى لخلقِ توافقٍ وتجانسٍ بالرؤية بين الأعضاء المؤسسين من جهة. وبينهم وبين المجتمع أو أصحاب المصلحة من جهةٍ أخرى، وهو ما يجعل المؤسسة تنتمي بشكل فعليّ إلى مجتمعها واحتياجاته وتغيراته. 
  2. أن تسير وفق منهجيّة محدّدة زمنيًّا، بالاعتماد على أدوات التخطيط الاستراتيجي[1] في جمع المعلومات وإدارة النقاش، وبناء التوافقات المُرضية لجميع الأعضاء. 
  3. أن تكون شاملةً، وطويلة الأمد ومستمرةً، يقوم بها الأعضاء القادة في المنظمة الممثلين بمجلس إدارة المنظمة، وتحدًد هذه العملية مساراتِ التغيير وطرق الوصول إلى الأهداف بعيدة المدى.
  4. أن تجيب بمكوناتها المختلفة على سبعةِ أسئلةٍ رئيسيّة تحتاج أيّ مؤسسةٍ أن تبني توافقًا حولها سواء داخل المؤسسة أو خارجها: (سبب وجود المؤسسة؟ لمن تتوجه المؤسسة؟ ماهي نقطة البداية عند إعداد الخطة؟ ما هو التطوّر المنشود من خلال تنفيذ الخطة؟ ما الذي ينبغي أن تفعله المؤسسة لتصل إلى هذا التطوّر؟ ما الذي تحتاجه المؤسسة للوصول إلى هذا التطوّر؟ كيف سنحدد مدى نجاح الخطة؟) بالإجابة على هذه الأسئلة تُبنى مكونات الهويّة لمؤسسات المجتمع المدنيّ المؤلفة من:
    • الرؤية (Vision) والتي هي الطموح البعيد الأمد أو التغيير الذي تبتغي المؤسسة تحقيقه في قضية ما. وتُشتقّ منها الرسالة (Mission) والتي هي: وثيقة مكتوبة تمثّل دستور المؤسسة، والمرشد الرئيسي لكافة القرارات والجهود التي تنفذها، وهي بيان مكتوب يوضح اتجاه المؤسسة، وغرض وجودها، والمشكلة التي تسعى إلى حلها، وأيضا المساحة الجغرافية لعملها، والوظائف التي تؤديها. 
    • وتتبع ذلك تحديد القيم الأساسيّة (Value) التي تعمل عليها وبها المؤسسة، والتي يجب أن تكون على اتصال مباشر بمجالِ أنشطة المؤسسة. ومن ثم صياغة الهدف الاستراتيجيّ أو الهدف العام، وهو بعيد المدى ويتمّ اشتقاقه من الرؤية، وتتمّ صياغته على شكل فعل تسعى المؤسسة لتحقيقه.[2]  
    • وأخيراً نظريّة التغيير (Change of theory): هي الأفكار والفرضيات حول كيفيّة إحداث التغيير. وهي ترتكز على المعتقدات الشخصية والفرضيات والحدود الضروريةِ والتصوّر الشخصيّ للواقع. بمعنى آخر إنّها تشكّل إطارًا توجيهيًّا لجميع مراحل التفكير والعمل وإضفاء المعاني على التجارب عندما نتدخّل عن عمدٍ في مسارات تغيير اجتماعيّ ما.[3] فعلى سبيل المثال نفترض وجود منظمة نسويّة تعمل على تمكين النساء، بعد تحليلها للواقع وللقضية التي تسعى لتحقيقها وخارطة المعيقات والمؤثرين الفاعلين، توصّلّت إلى أنّ السبب الرئيس في عدم المساواة الجندريّة في المجتمع، هو ضعف المشاركة الاقتصاديّة للنساء، لذلك بَنَتْ نظريتها في التغيير على “أنّ التمكين الاقتصاديّ وما يتعلق به من تأهيلٍ وتدريبٍ وتعليمٍ وتوفيرِ فرصِ العمل، كلّها عوامل أساسيّة وتراكميّة في تحصيل المساواة الجندريّة، الذي يقود إلى تخفيف العنف في المجتمع” لتصبح هذه النظريّة في التغيير بمثابة موجّهٍ لجميع البرامج والمشاريع والتدخلات التي سوف تعمل بها المنظمة في المستقبل.[4]

يوضّح الشكلُ أدناه[5] مثالًا على كيف تكون نظريّة التغيير حاضرةٌ في كلّ تفاصيلِ المشروع في عمل المنظمات من البداية وحتى النهاية، حيث كلّ نشاط يفترض أن يصب في مُخرجٍ محدد، وهذا المُخرج يصبّ في التغيير المنشود. ونظريّة التغيير أيضا تكون حاضرةً في الاستراتيجيات الواجب العمل بها بشكلٍ مسبق، حيثما تفترض المنظمة أنّ اتباع استراتيجيّةٍ محددةٍ سوف يؤدي إلى نتيجةٍ تصب بالهدف الموضوع.


تكمن خطورة عدم وجود هويّة للمؤسسة، في تحوّل المنظمات غير الحكوميّة من قطاعٍ يسعى للصالح العام؛ إلى مجرّد منفذٍ لأنشطةِ وخططِ المنظمات المانحة أو الدوليّة، أو أدواتٍ بيدِ السلطة. وهذا يفرّغهُ من سبب وجوهر وجوده الأوّل، وهو السّعي للصالح العام بما يصون حقوق الأفراد ويحفظ حرياتهم. وهذا ينطوي على مخاطر في إطار تحويله لمجرّد كيانٍ يسعى لالتقاط فرص التمويلِ بغضّ النظرِ عن مدى توافقها مع رؤيته وتوجهاته، أو مجال عمله وخبرته في المجتمع؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعارضٍ قيميٍّ، وهدرِ الكثير من الموارد لنقص الخبرة، فضلًا عن إضعاف قدرته النقدية المطلوب حضورها الدائم والمستمر. 


مثال عملي توضيحي عن هويّة منظمة Hivos الدوليّة :

الرؤية:

تؤمن Hivos إيمانًا راسخًا بحقّ كلّ شخص في العيش بحريّة وكرامة، والتمتّع بفرصٍ متساوية، والتأثير على القرارات المتخذة بشأن التغييرات التي يريدون رؤيتها في حياتهم ومجتمعاتهم وبلدهم.
نتصور عالمًا تُحترم فيه الاختلافات الفرديّة والخلفيات وتُستخدم لتقوية المجتمعات. عالم يتحدّ فيه الناس لتحدي اختلالات موازين القوى التي تسمح بالتدهور البيئيّ وتؤدي إلى تغيّرِ المناخ؛ والتي تتغاضى عن الاستغلال والقمع والإقصاء؛ والتي تديم عدم المساواة بين الجنسين.

الرسالة:

تعمل Hivos من أجل عالمٍ يمكن للناس فيه تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وإطلاق العنان لإبداعهم لبناء مجتمعات عادلة ومستدامة للحياة لأنفسهم وللأجيال القادمة. مهمتنا هي تضخيم وربط الأصوات التي تعزز العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة وتتحدى اختلالات القوة. نقوم بتمكين أصحاب الحقوق المهمشين بشكلٍ خاص لرفع صوتهم والمطالبة بحريّة الاختيار.
تدعم Hivos تطوير حلولٍ بديلةٍ للمشاكل العميقة الجذور بحيث يمكن للأفراد والمجتمعات اتخاذ خيارات مسؤولة وعادلة ضمن الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة التي تخدمُ احتياجاتهم وتحافظ على الكوكب. نحن نربط الأشخاص والمنظمات التي تقدّم بدائلَ لأولئك الذين يبحثون عن حلول في كفاحهم من أجل العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة.

القيم الجوهرية:

نحن نؤمن بأنّ الحياة البشريّة بأشكالها المتعددة ذات قيمة؛ أن جميع الناس يستحقون تحقيق إمكاناتهم الكاملة، مع تحمل مسؤولية الحفاظ على بيئتنا الطبيعية. يؤدي العيش في حريّة وكرامة، مع احترام بعضنا البعض وكوكب الأرض، إلى زيادة رفاهية الفرد ومجتمعات عادلةٍ وحيويّةٍ. قيمنا (الحرية والكرامة، المواطنة المسؤولة، تقرير المصير والتنوّع، المساواة والعدالة، الاستخدام المستدام لموارد كوكبنا).

نظرية التغيير:

تسعى منظمة هيفوس لتحقيق تغيّرٍ هيكليّ ومنهجيّ يمكّن جميع المواطنين -الرجال والنساء على حدٍّ سواء- من المشاركة على نحو فعّال ومتساوٍ في مسارات صنع القرارات التي تحدّد حيواتهم وشكل مجتمعاتهم ومستقبلهم. بناء على ذلك، تنخرط هيفوس وكادر عملها والمنظمات الشريكة في مسارات تغيير مركّبة وشائكة.
يتولّد التغير نتيجة عمليات تجاذب متبادلة ومتزامنة من قبل قوًى اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة متعددةٍ تضمّ الكثير من الأفراد والكيانات. مسارات التغيّر الاجتماعي مركّبة وشائكة وتتميز بحلقات تغذيّة راجعة غير أفقية: أفعالنا الذاتية تتفاعل مع أفعال الأخرين ومع عوامل تأثير لا تعدّ ولا تحصى. هذا الأمر يولّد تفاعلاتٍ لا يمكن توقّعها واستشرافها، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بمحصلات التدخلات التي تسعى للتغّير.


[1] – يمكن الرجوع إلى كتيب التخطيط الاستراتيجي لمنظمات المجتمع المدنيّ، لمزيد من التفاصيل والأمثلة عن كيفية بناء خطة استراتيجية لمنظمات المجتمع المدني. 

[2]  فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية. بيروت: فريريش إيبرت، ص16

[3]  ماريان فان إس. (بلا تاريخ). الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير، ص12

[4] – يمكن الاطلاع أكثر على كيفية بناء نظرية التغيير من خلال دليل منظمة هيفوس لنظرية التغيير (الممارسات العملية لفكر نظرية التغير) في الرابط التالي: https://resources.peopleinneed.net/documents/637-toc-arabic-hivos.pdf

[5] – الشكل مأخوذ من كتاب الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير. ماريان فان إس. (بلا تاريخ). ص37.

الحوكمة أو الحكم الرشيد:

استُخِدمَ مفهوم الحوكمة أو الحكم الرشيد لأوّل مرّة في عام 1989 في أدبيات البنك الدوليّ عندما تحدّث عن الأزمة في الدول الإفريقية وجنوب الصحراء بأنها “أزمة حكم”، حيث أرجع الخبراء السبب في عدم نجاح سياسات الإصلاح الاقتصاديّ والتكيّف الهيكلي بهذه الدول إلى الفشل في تنفيذ السياسات، وليس إلى السياسات نفسها. 

ويُقصد بالحكم الرشيد بحسب مفوضية حقوق الإنسانكلّ عمليات الحكم والمؤسسات والعمليات والممارسات التي يتمّ من خلالها اتخاذ القرارات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك وتنظيمها، ويضيف الحكم الرشيد صفةً معياريّةً وتقييميّةً لعملية الحكم[1]. مع الوقت تطوّر المفهوم، وأصبح لا ينطوي فقط على أبعاد مؤسسيّة تنظيميّة، وإنّما تعدّاه إلى أبعادٍ قانونيّةٍ وأخلاقيّة أضافتها الأمم المتحدة، وتُوجَزُ بالتالي: (المشاركة، حكم القانون، الشّفافيّة، حسن الاستجابة، بناء التوافق، المُساواة خاصة في تكافؤ الفرص، الكفاءة والفاعليّة، المُحاسبة والمُساءلة، الرؤية الاستراتيجيّة).


هنالك ارتباط وثيق بين المجتمع المدنيّ والحكم الرشيد، بل إنّ الحكم الرشيد يصبّ في جوهرِ وجود المجتمع المدنيّ منذ بداية تشكّله، حيث إنّ السعي لتحقيق حكمٍ عادلٍ وشفافٍ وتشاركيٍّ هي من أهمّ المسائل التي يسعى إليها المجتمع المدنيّ. ولهذه العلاقة جانبان بما يتعلق بالمنظمات المدنيّة؛ 

  • الجانب الأوّل: الحوكمة داخل المنظمات نفسها، وهنا يعرّف الحكم الرشيد بأنّه “مجموعـةٌ مـن القواعـد والقوانيـن والمعاييـر التـي تجـري بموجبهـا إدارة المنظمـات والرقابة، ويقـع علـى عاتقهـا مسـؤوليّة تنظيـم العلاقـة بيـن جميـع الأطراف فـي المؤسسـة وأصحـاب المصالـح وتُسـاعد القائميـن على تحديـد توجـهٍ وأداء المنظمـة ويمكـن مـن خلالها حمايـة المصالـح.[2] ووجود مستوى عالي للحوكمة داخل أي مؤسسة مدنية يسهم في ضمان استمرارية المؤسسة، وتقلل الأزمات المالية والإدارية، وتخفف من الترهّل الإداري، وتكافح عدم الكفاءة في العمل لدى العاملين. إلى جانب ذلك فهي تمنعُ استغلال بعض أعضاء مجلس إدارة المنظمة للسلطات المتاحة لهم في تحقيق مكاسبَ غير مشروعة أو تبديد أموالها. وتؤدّي إلى وجود عدالة وشفافيّة ومعاملة نزيهة لجميع الأطراف ذوي العلاقة بالمنظمة. [3]
  • الجانب الثاني هو النضال والسعيّ باتجاه مجتمع محوكمٍ بكليته، سواء على مستوى المؤسسات الحكومية، أو القطاع الخاص، أو القطاعات الأخرى في المجتمع. والذي يعني ببساطة أن يعمل المجتمع المدني على رصد ومراقبة الطريقة التي يتمّ من خلالها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبشرية للدولة. ومقاومة أشكال الفساد الإداري والمالي.

مبادئ تطبيق الحوكمة الرئيسية داخل المنظمات: 

حجر الزاوية في الحوكمة هو وجود نظامٍ داخليّ، وسياساتٍ وإجراءاتٍ معتمدة ومصادق عليها ومعمولٍ بها. يشتمل النظام الداخليّ على: اسم المنظمة، مجال عملها، الهدف\الغرض الذي أُنشأت من أجله، أسماء وعناوين المؤسسين، عنوان المكتب المسجل، واسم الوكيل المسجل للمنظمة، كما يوضح بنيتها الحاكمة الأساسية كالجمعية العامة، مجلس الإدارة، ويُبين التفاصيل المتعلّقة بتكويّنها وصلاحيات كلّ بنية حاكمة فيها، وسنستعرض بشكلٍ مركّزٍ وموجز كل هيئة حاكمة في المنظمة، دورها والصلاحيات التي تتمتع بها: 

  1. الهيئة العامة (الجمعية العامة): هي أعلى هيئة لصنع القرار في المنظمة، فهي التي تنتخب أعضاء مجلس الإدارة وتعزلهم، كما تقرّر المسائل المصيريّة للجمعية، والتي لا يمتلك مجلس الإدارة التقرير في شأنها. يتمّ دعوة الجمعية العامة للانعقاد مرّةً واحدةً على الأقل في السنة، وغالبًا ما تناقش في اجتماعها السنوي الاعتيادي: (الميزانية والحساب الختاميّ، تقرير مجلس الإدارة عن أعمال السنة، تقرير مراقب الحسابات، انتخاب أعضاء مجلس الإدارة بدلًا عن الذين زالت أو انتهت عضويتهم). ويجوزُ دعوة الجمعية العامة لاجتماعٍ غير عادي لأسباب منها: النظر في تعديل النظام الأساسي للجمعية أو حلّها او اندماجها مع غيرها، عزل كلّ أو بعض أعضاء مجلس الإدارة، وغير ذلك من المسائل الأساسيّة التي تختصُّ بها الجمعية العامة[4]
  2. أمّا مجلس الإدارة (الهيئة الإداريّة): فهي الهيئة الحاكمة الرئيسية للمنظمات غير الحكوميّة (غالبًا يكون وجودها شرطًا رئيسيًّ لترخيص المنظمة وفقَ القانون العام)، ويضطلع مجلس الإدارة بمهام صياغة رسالة المنظمة وتحديد أغراضها وبلورة رؤية واضحة، اختيار المدير التنفيذي ودعمه وتقييم أداءه، التخطيط الاستراتيجي وتدبير التمويل اللازم لعمل المنظمة وضمان كفايته[5]. إلى جانب الدور الرقابيّ المستمر. فمجلس الإدارة بمعنًى أخر هو مجلسٌ ذو سلطةٍ كاملةٍ لاتخاذِ القراراتِ فيما يتعلق بتنفيذ الأهداف والسياسات التي تقررها الهيئة العامة ويقوم بوظيفةِ الرقابةِ ويساعد في الحصول على تمويلات الأنشطة. 
    يعتمد عدد أعضاء مجلس الإدارة على حجم المنظمة، وغالبًا ما يكون عددهم فردي من (5 إلى 7 أعضاء) كمعدّل وسطيّ، والعدد الفردي يكون لأغراض حُسْنِ عمل نظام الضوابط والتوازنات في حال لم يتم التوافق وتم اللجوء إلى التصويت بنظام النصف +١ أو بنظام الثلثين. عمومًا يتعين على الهيئات العامة للمنظمات اختيار حجم الهيئة الإدارية الذي سيمكّنهم من: عقد مناقشات بنّاءة ومثمرة واتخاذ قرارات سريعة ومنطقية، وتنظيم عمل لجانها بكفاءة. ولضمان فاعلية أكبر للمجلس من المهم أنّ يتمتع أعضاءه بخبرةٍ في مجالات (التنميّة والمجتمع المدنيّ، خبرةٍ قانونيّةٍ، تمثيلٍ لأصحابِ الشأن والمصلحة، تنوّع جنسيّ وعمريّ، إلى جانب سماتٍ أساسيّة كالنزاهة والصدق)[6].
  3. الفريق الإداريّ التنفيذيّ: وهم فريق الموظفين والمتطوعين المنفذين الذين يقومون بأداء عملهم بشكلٍ يوميّ، ويَنْصَبُّ اهتمامهم الأساسي على الكيفيّة التي يجب أنّ يتم بها استخدام الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، كما يتولون مسؤولية تحويل وترجمة السياسياتِ والتوجهاتِ العامة للجمعيةِ إلى أنشطةٍ ومشروعات. في غالب الأحيان يقوم مجلس الإدارة بندب مدير تنفيذيّ لإدارة الفريق الإداريّ، وتنفيذ سياسات الأنشطة، ويكون المدير التنفيذيّ بدوره مسؤولًا أمام مجلس الإدارة، إذ يتولى إرشاد مجلس الإدارة وتوجيهه للخيارات المختلفة، حيث يختصّ بترجمةِ رسالةِ المنظمةِ وتجسيد رؤيتها، وتوفير مصادر التمويل، وإدارة وتخصيص موارد المنظمةِ والاشراف على شؤونها المالية، وإدارة شؤون العاملين، والاشراف على تقديم البرامج والخدمات، والإفصاح عن المنظمة والتعامل مع البيئة الخارجيّة[7].

من ناحية المبدأ الرئيسي؛ تستند الحوكمة الداخلية في المنظمات المدنيّة إلى مبدأ “فصل الحوكمة عن الإدارة“. بمعنى ألا تتدخّل الهيئة العامة ومجلس الإدارة بالإدارة التنفيذيّة اليوميّة، وتكتفي بدور الموجه والرقيب لعمل المنظمة ككل، حيث يشكل هذا الفصل بين المستويين تنشيطَ وتفعيل العمل المدنيّ. كما أنه يضمن تشغيل المنظمة بشكلٍ فعال، مع مراعاة المصلحة العامة. أمّا التداخل الحاصل في المنظمات المدنيّة بين مجالس الإدارة، ومهام الإدارة التنفيذيّة سيؤدّي إلى إضعاف الإدارة، وإشغال مجالس الإدارة عن دورها الحقيقيّ كوجه للإيقاع العام لعمل المنظمة نحو الهدف والتغيير المرجو[8]. إلى جانب الاحتمالية متوقعة الحصول لتضاربِ المصالح نتيجة لهذا الخلط بين الوظائف الرقابیّة والتنفیذیّة.[9]


[1]  المفوضية السامية لحقوق الانسان. (n.d.). نبذة عن الحكم الرشيد.

[2] منظمة محامون بلا حدود. (2021). الحوكمـة الشـاملة فـي عمـل منظمـات المجتمـع المدنـي، ص 18.

[3]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص4

[4]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 7

[5]   المرجع السابق، ص 8.

[6] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 9-15

[7] برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 9.

[8] برنامج دعم المجتمع المدني، مرجع سبق ذكره، ص 11

[9] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 11.

الأقسام الإدارية التنفيذية للمنظمات المدنيّة:

يتبع بناء الخطة الاستراتيجيّة التي سبق ذكرها، مرحلة التخطيط التنفيذيّ الذي يُبنى بالضرورة على الخط العام المعتمد للمؤسسة، ووفقا لقيمها ورؤيتها. ويعدّ التخطيط التنفيذيّ هو المرحلة التي تحول المؤسسة أفكارها ورؤاها وطموحاتها، إلى توجهاتٍ فعليّة وأهدافَ محددة وبرامج عمل. أي هو وضع الخطة الاستراتيجيّة في سياقِ برنامجٍ زمنيٍّ وماليٍّ وإداريٍّ. يمثّل الشكل أدناه دورة حياة العمل في المنظمة، والذي يوضّح الخطة التسلسليّة لحياة المنظمة إلى جانب التشابكات في كلّ منها[1]:


يمكن التمييز وفقا لدورة حياة المنظمة، بين خمس أقسام أساسيّة داخل المنظمة، والتي تزيد وتنقص باختلاف طبيعة وحجم أنشطة المنظمة. وجود هذه الأقسام مرتبطة بوجود مصدر تمويلي للمشاريع، وتعد مخرجات كل قسم من هذه الأقسام؛ متطلّبات أساسية للحصول على التمويل، ولإثبات الشفافيّة والنزاهة أمام المانح بالدرجة الأولى، وأمام الجهات الحكوميّة الرسميّة ذات الصلة، وأما أعضاء المنظمة نفسها والمجتمع المستهدف. وهذه الاقسام هي: (التمويل، البرامج، الإدارة المالية، المتابعة والتقييم، الموارد البشرية، المناصرة، الأبحاث). 

أولًا: قسم التمويل:

 يعد التمويل؛ عملية تبادلية بين مانح ومتمول يريدان كلاهما إحداث فرقٍ إيجابيّ في المجتمع المستهدف. بمعنى أنها عمليّة تشاركيّة وحاجة متبادلة لدى الجهتين، فكما أنّ طالب التمويل يسعى جاهدًا للحصول على جهةٍ مانحةٍ؛ فإنّ الجهات المانحة[2] تبذل جهدًا ليس بالقليل لتمويل مشاريعَ قادرةٍ على إحداث تغيير إيجابيّ. 

يضطلع قسم التمويل داخل المنظمة في إيجاد فرص تمويليّة لبرامج وأنشطة المنظمة، وكتابة مقترحات المشاريع. إذ تتمّ عملية البحث عن التمويل عادةً من خلال التعرّف على الجهات المانحة (أهدافها استراتيجياتها، نوعية المشاريع التي تموّلها الجهة التابعة لها، شروط التمويل، حجم المبالغ المقدّمة، تواريخ التقديم للتمويل). هذا بالنسبة لمصادر التمويل من منظمات كبيرة أو حكومات، والامر ينطبق على مصادر التمويل من القطاع الخاص، ومن الأفراد في المجتمع.
ويُعتبر طلب التمويل؛ عمليةً استثماريّة -بالمعنى الرمزيّ للكلمة- بمعنى أنها تتعدّى لحظيّة التمويل الحالية، إلى بناء علاقةٍ طويلةِ الأمد مع الممولين؛ الأمر الذي يحتاج جهدًا ووقتًا ليس بالقليل بحيث يكون الهدف في النهاية النجاح في بناء شبكةٍ من الممولين تتألف بمعظمها من ممولينَ دائمين يقدمون منحًا صغيرةً على أُسسٍ ثابتةٍ ومستمرةٍ.[3]

معايير التمويل: عمومًا لا توجد طريقةٌ ثابتةٌ أو وصفةٌ سحريّةٌ لإقناع المانحين بتمويل المشروع المقدّم. لكن ما يساعد على ذلك هو التركيز على كتابةِ المشروعِ بطريقةٍ منطقيّةٍ لتقديمهِ بطريقةٍ مناسبة وإبداءِ قدرٍ من المرونة والابداع، إلى جانب مجموعةٍ من المحدداتِ والمعايير التي ينظرُ إليها المانح أثناء تقييمه للمنظماتِ التي يفكّرُ بتمويلها: 

  1. معايير إداريّة: مثل وجود وضعٍ قانونيٍّ للمنظمة[4]، امتلاكها لنظام داخليّ وسياسات وإجراءاتٍ وفقَ معايير محددةٍ غالبًا ما تكون تضمن درجةً عاليةً من الحوكمةِ.
  2. معايير فنيّة: والتي تتضمن مجال عمل المنظمة وخبرتها، المشاريع والأنشطة السابقة، مستوى الوصول على المستوى البشريّ والجغرافيّ للمجتمع.
  3. معايير ماليّة: تتمثّل في وجود سياساتٍ ماليّةٍ معتمدةٍ، وأيضًا وجود تقييم ماليّ من جهة خارجيّة للإجراءات المالية في المنظمة خلال المشاريع السابقة وهذه غالبًا ما تكون في المنظماتِ الكبيرةِ التي لديها مشاريع. 
  4. معايير أخرى: حيث تنظر الكثير من المنظمات إلى التوجّه السياسيّ للمنظمة إلى أيّ حدٍّ يتوافق مع توجّهها، حيث يسهّل هذا الأمرُ على المنظمات المانحة بناءَ العلاقةِ في حال كانت المبادئ الأساسيّة متشابهةً. إلى جانب معايير متعلقةٍ بالمكان والقطاع حيث غالبًا ما تكون سياسات التمويل موجّهة لدعم قطاعٍ ومكانٍ محددين، على سبيل المثال تقوم جهةٌ مانحةٌ بتقديم منحٍ تمويليّةٍ لقطاعِ التعليم في شمال غرب سورية، في هذا الإطار سوف تمنع الجهة المانحة المنظمة المُمولة صرف أموال المنحة خارج القطاع والمكان الذين تمّ تحديدهما كشرطٍ مسبقٍ لتلقي المنحة الماليّة، وهنا يطرح التساؤل الهام في كيفية إدارة المنظماتِ لهذه التحديات والتوفيق بين رؤيتها في القطاع والمكان الذي تعمل بها، وبين قيود وأجندات المانح، في إطار حاجتها للتمويل.

وبالنسبة للتمويلات القادمة من القطاع الخاص أو الأفراد، يكون هنالك جهد مبذول في إطار تنظيم حملات مناصرة تخاطب الجمهور المستهدف وتقنعه حول القضية المراد تمويلها. 


ثانيًا: قسم البرامج والمشاريع:

 يعد المشروع سلسلة نشاطاتٍ تسعى لتحقيق أهدافٍ معينةٍ، يتمّ تنفيذها خلال فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وضمن إطار موازنة معتمدة. بينما البرنامج هو إطارٌ يضمُّ داخلهُ مجموعةَ مشاريعٍ تعمل جميعها لتحقيق الهدف الذي أُنشأ من أجله البرنامج، على سبيل المثال برنامج حماية النساء المعنّفات في منظمة ما، قد يضمُّ داخله: (مشروع الإيواء، ومشروع الحماية القانونيّة، ومشروع التعافيّ النفسيّ، ومشروع التمكين والتأهيل) جميع هذه المشاريع تصبُّ في البرنامج الأكبر وهو حماية النساء. 

يمرُّ المشروع بدورةِ حياةٍ مؤلفةٍ من أربعةِ مراحلَ وهي (التخطيط، التحليل، التنفيذ، المتابعة والتقييم). ويوضّح الشكل التشابكات التي تبدأ منذ اللحظة الأوّلى للفكرة، فمثلا نجد التخطيط يسبق مرحلة التحليل في البداية، ولاحقا يسبق التنفيذ بعد الانتهاء من مرحلة التحليل. [5]


ثالثًا: قسم المتابعة والتقييم:

 المتابعة هي عملية منظّمةٌ ومخطّطةٌ ومستمرةٌ، تتمّ بصفة دوريّة على مدار عمر المشروع لجمع المعلومات عن المشروع من ناحيةِ ما تمّ إنجازه، وهل تمّ إنجازه بالوقت المحدد، بالإضافة للتحديات التي يواجهها تنفيذ الأنشطة؛ والغرض من ذلك المساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة من قِبل إدارة المشروع. أمّا التقييم: فهو عمليةُ قياسِ مدى نجاح مشروعٍ أو برنامجٍ في الوصول للأهداف المخطط لها مسبقًا.

وكلاهما -التقييم والمتابعة- يستند في عمله إلى مؤشرات كميّة ونوعيّة محددةٍ بشكلٍ مسبقٍ في مقترح المشروع المقدّم للمانحِ، وتَستخدمُ في سبيل تحقيق ذلك جملةً من أدواتِ التحقّقِ المختلفة. والتقاريرِ الصادرة عن قسم المتابعة والتقييم تُطلبُ من قِبلِ الجهة المموّلة التي تُتابع من جهتها -وعبر قسم المتابعة والتقييم لديها- سير المشروع الذي تمّ تقديم المنحة المالية له. 

ويجدر التنويه إلى أن المتابعة والتقييم هي عملية لا تقتصر على المشروعات الممولة، إنما هي عملية اكبر من ذلك بكثير، فهي تعد واحدة من الأدوات التي يتم اللجوء إليها لمعرفة إلى أي حد المنظمة تسير في إطار الرؤية والأهداف التي تتبناها. حيث يعد من أهم الأدوات التي يستخدمها مجلس الأدارة والهيئة العامة في تقييمهم السنوي للمنظمة ككل. 


رابعًا: القسم المالي:

يختصّ بإدارة الموارد المالية للمنظمة والهدف تحقيق الفاعلية العظمى لأهداف المنظمة. وعلى الرغم من أن هدف منظمات المجتمع المدنيّ غيرُ ربحيّ؛ إلّا أنّ هذا لا يعني أنْ تكون مبذّرة أو غير فعّالة أو ألّا تسعى لتحقيق هدفها بالجودة المطلوبةِ بأقلِ التكاليفِ الممكنةِ؛ هذا الموضوع مهمٌّ لسببين: الأول هو صعوبةُ الحصولِ على التمويل بفعلِ المنافسة المتزايدة، حيث يُمنح التمويل للمنظمات الكُفء التي تستطيعُ أن تخدم عددًا أكبرَ من المستفيدين بنفس الموارد. والسبب الثاني داخليٌّ يتعلق بالإدارة والرقابة الداخليّة للمنظمة للتأكّد من حسنِ استخدام وصرف التمويل من قبل فريق العمل حتى في حالِ غياب الرقابة الخارجيّة.[6]

أمّا التدقيق المالي: فهو إجراءُ مراجعةٍ مستقلةٍ للنظامِ المالي وللبيانات الماليّة للمنظمة من قبل مختصين ماليين. بعض الدول تطالب جميع المنظمات الربحيّة وغير الربحيّة بإجراءِ تدقيقٍ ماليٍّ سنويٍّ ضمن القوانين الناظمة، بينما يكون هذا الاجراءُ اختياريًّا في دول أخرى.[7]


أقسام أخرى:

يضافُ إلى الأقسامِ السّابقة، أقسامٌ متخصصةٌ تَتبَعُ لنوعِ أنشطةِ المنظمةِ، وكِبَرِ حجمها، والعمليات الداخليّة والخارجيّة التي تقوم بها، ومنها: 

  1. قسم الموارد البشريّة: وهو القسم المعني بإدارة شؤون الموظفين والمتطوعين إداريًّا، والمسؤول عن صقل خبراتهم ومهاراتهم. 
  2. قسم المناصرة والتواصل: ويعد قسمًا رئيسيًّا في معظمِ المنظماتِ، لدوره الهام في الحشد والتنظيم المجتمعي، للتأثير في السياسات أو تغييرها. 
  3. قسم العمليات والدّعم اللوجستيّ: يكون مهم في المنظماتِ التي لديها كمٌّ كبيرٌ من العمل مع شركاء من القطّاع الخاصِ والحكوميّ والمشترك، حيثما يتطلّب الأمر قسمً متخصّصًا لإصدارِ الأذونات والموافقات اللازمة، إلى جانب الحجوزات وتأمين الموارد اللازمة للأنشطة، وما إلى هنالك من الأمورِ اللوجستيّةِ. 
  4. قسم الأبحاث والدراسات: في المنظمات التي تُصدرُ باستمرارٍ أبحاثًا أو أوراقًا بحثيّةً أو أوراق سياساتيًّة، فهي تقوم بإنشاءِ وحدةٍ متخصصةٍ لإنجاز مثل هذه المنتجات. 

كخلاصة عامة للجزء المتعلق بالمنظمات يمكن تلخيص النقاط التالية: 

المنظمات المدنية هي الشكل المنظم من المجتمع المدني، الذي تم إيجاده لأغراض تنظيمة تساعد المنظمات في إدارة أصولها المالية بطريقة شفافة أمام الحكومات والمانحين والمجتمع ككل. 

في كثير من الأحيان يكون وجود ترخيص للمنظمة مقيد لها ومعيق لحريتها. وفي بعض الدول تكون فوائد عدم الترخيص تفوق بكثير وجود ترخيص قانوني، لذلك وجب على الأفراد الناشطين في المجال المدني تقييم خطوة حصولهم على ترخيص قانوني في إطار الفوائد والمثالب التي من الممكن ان يتعرضوا لها في إطار ناشطيتهم.

عموما يمكن القول إن وجود هذا الشكل المؤسسي للمنظمات المدني يستلزم جملة من العناصر الضرورية الواجب توافرها بها لتبقى المنظمة مصنفة ضمن الحيز المدني وعلى رأسها أن تكون غير تابعة للحكومة أو لطرف سياسي، وأن تكون غير ربحية ولا تهدف إلى الربح. 

ولضمان بقائها على السكة المدنية وفقاً للأهداف التي وضعتها لنفسها أثناء العمل وتنفيذ الأنشطة، في إطار الدور النقدي الملتزم بالدفاع عن الحقوق والحريات، يستلزم ذلك وجود ثلاثة أركان داخل المنظمة؛ (امتلاكها لهوية واضحة ومعلنة، مستوى عالي من الحوكمة الرشيدة، وجهاز تنفيذي). 


[1] فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية، ص 11.

[2] – لا تقتصر عملية تمويل المجتمع المدني على الهيئات والمنظمات الدولية، او حكومات الدول، وإنما تتعداها لتشمل الشركات والبنوك، وتبرعات الأفراد، ومصادر تمويلات من منظمات أخرى لها أهداف متقاطعة مع المنظمة المتمولة. 

[3] فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني، ص 21.

[4] – يختلف شرط وجود التسجيل القانوني للمنظمة بحسب المانح، هنالك بعض المانحين ممن يقدمون تمويلات صغيرة ومتوسطة للفرق والجمعيات والمنظمات لا يشترطون وجود هذا التسجيل، ولكن الأغلبية يشترطون وجود التسجيل القانوني وخاصة في حال وجود منح كبيرة مقدمة، وفي بعض الحالات تلجأ المنظمات الصغيرة التي لا ترغب بالتسجيل القانوني إلى منظمات حاضنة تكون مرخصة والاستفادة من ترخيصها في إدارة منحتها المالية بسلاسة وبدون عوائق وفق صيغة معينة مع المانح والحاضنة.  

[5] الشكل مأخوذ من كتيب التخطيط للمشاريع وكتابة المقترحات، فريدريك إيبرت، 2013.

[6]  فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني. بيروت، ص 7

[7]  المرجع السابق، ص 23

أولًا: تعريف منظمات المجتمع المدني وتاريخيتها

يعتبر تأطير المجتمع المدنيّ بأشكال مُؤسسية؛ مُجاراةً للتطوّرات الحديثة الحاصلة في البنى الاقتصادية والتنظيميّة في العالم، إذ تعد المنظمات بمثابة الكيانَ الاعتباري الذي يَسُهل التعامل معه قانونيًا، وتنظيميًّا وماليًّا من قِبل الحكوماتِ والهيئاتِ والمنظماتِ الدولية المانحة. 

دَخلت تسميةُ المنظمات غير الحكوميّة حيز الاستخدام الفعلي مع الأمم المتحدة عام 1940 التي كانت أوّل من استخدمتها، وعَملت على تعميمها لاحقًا. إذ نظّمت المادتان (70 و71) العلاقة مع المنظمات غير الحكوميّة، فقد لحظت المادة (70) دورًا متقدمًا للوكالات المتخصصة دون إعطائها الحقّ في التصويت على المقترحات والقرارات. أمّا المادة (71) فأوجدت أُطرًا للتشاور ووضع الترتيبات، حيث غَدت المنظمات غير الحكوميّة شريكًا تقنيًّا في أنشطة الأمم المتحدة الدوليّة[1]. هذا بما يخص الوكالات الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة، لكنَ الأمر لم يقف عند هذا الحدّ وإنّما تَعدّاه إلى وجود منظمات لا تتبع للأمم المتحدة، وتعمل بشكل محليّ في جميع دول العالم تقريبًا. 


أَطلقت الأمم المتحدة تعريفها على المنظمات غير الحكوميّة بكونها “مجموعة مواطنين تطوعية غير هادفة للربح يتمّ تنظيمها على المستوى المحلي أو الوطني أو الدولي لمعالجة القضايا لدعم الصالح العام. تقوم المنظمات غير الحكومية الموجهة نحو المهام والمكونة من أشخاص لهم مصلحة مشتركة، بأداء مجموعة متنوعة من الخدمات والوظائف الإنسانية، وتقديم مخاوف المواطنين إلى الحكومات، ومراقبة تنفيذ السياسات والبرامج، وتشجيع مشاركة أصحاب المصلحة في المجتمع المدني على مستوى المجتمع”[2].


تزامن زيادة وتفعيل دور وعمل المنظمات غير الحكوميّة فعلياً؛ مع تطوّر منظور الأمم المتحدة لدورها وتدخلاتها في العالم؛ والتي بدأت كما اوردناه سابقاً على شكل منظماتٍ رعائيّةٍ وخدمية، إلى منظماتٍ تعمل على تحقيق توجهاتِ التنميّة المستدامة، ثم إلى منظماتٍ ساعيةٍ لتحقيق وتعزيز حقوق الإنسان ودفع عملية التغير الهيكلي في الدول المختلفة، وصولًا إلى منظماتٍ تسعى إلى تعزيز الحراك الاجتماعيّ وتعزيز قيمة رأس المال الاجتماعيّ عبر الحدود الجغرافية[3].  

حتى أصبحت أهمّية المنظمات غير الحكوميّة ككلّ -ليس فقط الدوليّة- في العصر الحالي، تَكمن في المُساهمة في تحسينِ إدارة الحكم؛ عبر تعزيز المُساءلة والشفافية في النظام السياسيّ. والإسهام في صياغة السياسات العامة، وحماية الحقوق، والتوفيق بين المصالح، وإيصال الخدماتِ الاجتماعية، وأصبحت المقاربة الجديدة للأمم المتحدة “لا يمكن مواجهة التحديات والتعقيدات اليوم ومعالجتها بدون شراكة بين الحكومات والقطاع الخاص المجتمع المدني والمواطنين على حد سواء”[4].


[1] أماني قنديل (2008) ص71.

[2]  Leverty, S. (2008). American Psychology Association. Retrieved from NGOs, the UN and APA.

[3] أماني قنديل (2008) ص76.

[4]  الأمم المتحدة (د.ت.) برنامج إدارة الحكم في الدول العربية.

الحوكمة أو الحكم الرشيد:

استُخِدمَ مفهوم الحوكمة أو الحكم الرشيد لأوّل مرّة في عام 1989 في أدبيات البنك الدوليّ عندما تحدّث عن الأزمة في الدول الإفريقية وجنوب الصحراء بأنها “أزمة حكم”، حيث أرجع الخبراء السبب في عدم نجاح سياسات الإصلاح الاقتصاديّ والتكيّف الهيكلي بهذه الدول إلى الفشل في تنفيذ السياسات، وليس إلى السياسات نفسها. 

ويُقصد بالحكم الرشيد بحسب مفوضية حقوق الإنسانكلّ عمليات الحكم والمؤسسات والعمليات والممارسات التي يتمّ من خلالها اتخاذ القرارات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك وتنظيمها، ويضيف الحكم الرشيد صفةً معياريّةً وتقييميّةً لعملية الحكم[1]. مع الوقت تطوّر المفهوم، وأصبح لا ينطوي فقط على أبعاد مؤسسيّة تنظيميّة، وإنّما تعدّاه إلى أبعادٍ قانونيّةٍ وأخلاقيّة أضافتها الأمم المتحدة، وتُوجَزُ بالتالي: (المشاركة، حكم القانون، الشّفافيّة، حسن الاستجابة، بناء التوافق، المُساواة خاصة في تكافؤ الفرص، الكفاءة والفاعليّة، المُحاسبة والمُساءلة، الرؤية الاستراتيجيّة).


هنالك ارتباط وثيق بين المجتمع المدنيّ والحكم الرشيد، بل إنّ الحكم الرشيد يصبّ في جوهرِ وجود المجتمع المدنيّ منذ بداية تشكّله، حيث إنّ السعي لتحقيق حكمٍ عادلٍ وشفافٍ وتشاركيٍّ هي من أهمّ المسائل التي يسعى إليها المجتمع المدنيّ. ولهذه العلاقة جانبان بما يتعلق بالمنظمات المدنيّة؛ 

  • الجانب الأوّل: الحوكمة داخل المنظمات نفسها، وهنا يعرّف الحكم الرشيد بأنّه “مجموعـةٌ مـن القواعـد والقوانيـن والمعاييـر التـي تجـري بموجبهـا إدارة المنظمـات والرقابة، ويقـع علـى عاتقهـا مسـؤوليّة تنظيـم العلاقـة بيـن جميـع الأطراف فـي المؤسسـة وأصحـاب المصالـح وتُسـاعد القائميـن على تحديـد توجـهٍ وأداء المنظمـة ويمكـن مـن خلالها حمايـة المصالـح.[2] ووجود مستوى عالي للحوكمة داخل أي مؤسسة مدنية يسهم في ضمان استمرارية المؤسسة، وتقلل الأزمات المالية والإدارية، وتخفف من الترهّل الإداري، وتكافح عدم الكفاءة في العمل لدى العاملين. إلى جانب ذلك فهي تمنعُ استغلال بعض أعضاء مجلس إدارة المنظمة للسلطات المتاحة لهم في تحقيق مكاسبَ غير مشروعة أو تبديد أموالها. وتؤدّي إلى وجود عدالة وشفافيّة ومعاملة نزيهة لجميع الأطراف ذوي العلاقة بالمنظمة. [3]
  • الجانب الثاني هو النضال والسعيّ باتجاه مجتمع محوكمٍ بكليته، سواء على مستوى المؤسسات الحكومية، أو القطاع الخاص، أو القطاعات الأخرى في المجتمع. والذي يعني ببساطة أن يعمل المجتمع المدني على رصد ومراقبة الطريقة التي يتمّ من خلالها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبشرية للدولة. ومقاومة أشكال الفساد الإداري والمالي.

مبادئ تطبيق الحوكمة الرئيسية داخل المنظمات: 

حجر الزاوية في الحوكمة هو وجود نظامٍ داخليّ، وسياساتٍ وإجراءاتٍ معتمدة ومصادق عليها ومعمولٍ بها. يشتمل النظام الداخليّ على: اسم المنظمة، مجال عملها، الهدف\الغرض الذي أُنشأت من أجله، أسماء وعناوين المؤسسين، عنوان المكتب المسجل، واسم الوكيل المسجل للمنظمة، كما يوضح بنيتها الحاكمة الأساسية كالجمعية العامة، مجلس الإدارة، ويُبين التفاصيل المتعلّقة بتكويّنها وصلاحيات كلّ بنية حاكمة فيها، وسنستعرض بشكلٍ مركّزٍ وموجز كل هيئة حاكمة في المنظمة، دورها والصلاحيات التي تتمتع بها: 

  1. الهيئة العامة (الجمعية العامة): هي أعلى هيئة لصنع القرار في المنظمة، فهي التي تنتخب أعضاء مجلس الإدارة وتعزلهم، كما تقرّر المسائل المصيريّة للجمعية، والتي لا يمتلك مجلس الإدارة التقرير في شأنها. يتمّ دعوة الجمعية العامة للانعقاد مرّةً واحدةً على الأقل في السنة، وغالبًا ما تناقش في اجتماعها السنوي الاعتيادي: (الميزانية والحساب الختاميّ، تقرير مجلس الإدارة عن أعمال السنة، تقرير مراقب الحسابات، انتخاب أعضاء مجلس الإدارة بدلًا عن الذين زالت أو انتهت عضويتهم). ويجوزُ دعوة الجمعية العامة لاجتماعٍ غير عادي لأسباب منها: النظر في تعديل النظام الأساسي للجمعية أو حلّها او اندماجها مع غيرها، عزل كلّ أو بعض أعضاء مجلس الإدارة، وغير ذلك من المسائل الأساسيّة التي تختصُّ بها الجمعية العامة[4]
  2. أمّا مجلس الإدارة (الهيئة الإداريّة): فهي الهيئة الحاكمة الرئيسية للمنظمات غير الحكوميّة (غالبًا يكون وجودها شرطًا رئيسيًّ لترخيص المنظمة وفقَ القانون العام)، ويضطلع مجلس الإدارة بمهام صياغة رسالة المنظمة وتحديد أغراضها وبلورة رؤية واضحة، اختيار المدير التنفيذي ودعمه وتقييم أداءه، التخطيط الاستراتيجي وتدبير التمويل اللازم لعمل المنظمة وضمان كفايته[5]. إلى جانب الدور الرقابيّ المستمر. فمجلس الإدارة بمعنًى أخر هو مجلسٌ ذو سلطةٍ كاملةٍ لاتخاذِ القراراتِ فيما يتعلق بتنفيذ الأهداف والسياسات التي تقررها الهيئة العامة ويقوم بوظيفةِ الرقابةِ ويساعد في الحصول على تمويلات الأنشطة. 
    يعتمد عدد أعضاء مجلس الإدارة على حجم المنظمة، وغالبًا ما يكون عددهم فردي من (5 إلى 7 أعضاء) كمعدّل وسطيّ، والعدد الفردي يكون لأغراض حُسْنِ عمل نظام الضوابط والتوازنات في حال لم يتم التوافق وتم اللجوء إلى التصويت بنظام النصف +١ أو بنظام الثلثين. عمومًا يتعين على الهيئات العامة للمنظمات اختيار حجم الهيئة الإدارية الذي سيمكّنهم من: عقد مناقشات بنّاءة ومثمرة واتخاذ قرارات سريعة ومنطقية، وتنظيم عمل لجانها بكفاءة. ولضمان فاعلية أكبر للمجلس من المهم أنّ يتمتع أعضاءه بخبرةٍ في مجالات (التنميّة والمجتمع المدنيّ، خبرةٍ قانونيّةٍ، تمثيلٍ لأصحابِ الشأن والمصلحة، تنوّع جنسيّ وعمريّ، إلى جانب سماتٍ أساسيّة كالنزاهة والصدق)[6].
  3. الفريق الإداريّ التنفيذيّ: وهم فريق الموظفين والمتطوعين المنفذين الذين يقومون بأداء عملهم بشكلٍ يوميّ، ويَنْصَبُّ اهتمامهم الأساسي على الكيفيّة التي يجب أنّ يتم بها استخدام الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، كما يتولون مسؤولية تحويل وترجمة السياسياتِ والتوجهاتِ العامة للجمعيةِ إلى أنشطةٍ ومشروعات. في غالب الأحيان يقوم مجلس الإدارة بندب مدير تنفيذيّ لإدارة الفريق الإداريّ، وتنفيذ سياسات الأنشطة، ويكون المدير التنفيذيّ بدوره مسؤولًا أمام مجلس الإدارة، إذ يتولى إرشاد مجلس الإدارة وتوجيهه للخيارات المختلفة، حيث يختصّ بترجمةِ رسالةِ المنظمةِ وتجسيد رؤيتها، وتوفير مصادر التمويل، وإدارة وتخصيص موارد المنظمةِ والاشراف على شؤونها المالية، وإدارة شؤون العاملين، والاشراف على تقديم البرامج والخدمات، والإفصاح عن المنظمة والتعامل مع البيئة الخارجيّة[7].

من ناحية المبدأ الرئيسي؛ تستند الحوكمة الداخلية في المنظمات المدنيّة إلى مبدأ “فصل الحوكمة عن الإدارة“. بمعنى ألا تتدخّل الهيئة العامة ومجلس الإدارة بالإدارة التنفيذيّة اليوميّة، وتكتفي بدور الموجه والرقيب لعمل المنظمة ككل، حيث يشكل هذا الفصل بين المستويين تنشيطَ وتفعيل العمل المدنيّ. كما أنه يضمن تشغيل المنظمة بشكلٍ فعال، مع مراعاة المصلحة العامة. أمّا التداخل الحاصل في المنظمات المدنيّة بين مجالس الإدارة، ومهام الإدارة التنفيذيّة سيؤدّي إلى إضعاف الإدارة، وإشغال مجالس الإدارة عن دورها الحقيقيّ كوجه للإيقاع العام لعمل المنظمة نحو الهدف والتغيير المرجو[8]. إلى جانب الاحتمالية متوقعة الحصول لتضاربِ المصالح نتيجة لهذا الخلط بين الوظائف الرقابیّة والتنفیذیّة.[9]


[1]  المفوضية السامية لحقوق الانسان. (n.d.). نبذة عن الحكم الرشيد.

[2] منظمة محامون بلا حدود. (2021). الحوكمـة الشـاملة فـي عمـل منظمـات المجتمـع المدنـي، ص 18.

[3]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص4

[4]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 7

[5]   المرجع السابق، ص 8.

[6] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 9-15

[7] برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 9.

[8] برنامج دعم المجتمع المدني، مرجع سبق ذكره، ص 11

[9] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 11.

ثالثًا: المجتمع المدنيّ لدى هيغل، وثورات الشعوب الأوربيّة

التطوّر المهم الثاني كان في فكر الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل[1] الذي نَقد مفكريّ العقد الاجتماعيّ، ففي حين وضع مفكرو العقد الاجتماعيّ الدولةَ في خدمة المجتمع المدنيّ، جاء هيغل بفلسفة سياسيّة اعتبرتْ المجتمع المدنيّ مرحلةً من مراحلِ الدولة، وجعل المجتمع المدنيّ في خدمة الدولة، ودعا الأفراد إلى التضحيّة بأنفسهم من أجل بقاء واستمرار الدولة. ورسمَ العلاقةَ بينهما أي المجتمع والدولة لا كمجردِ علاقةِ نفيٍّ وإثبات، وإنّما علاقةٌ يتحوّل فيها كلّ من طرفيها إلى مركّب مكوّن للطرف الآخر.[2]

فالمجتمع المدنيّ -بحسب هيغل- هو المجال الحيويُّ لرغبةِ الإنسان في الاعتراف بالذات، حيث يكون الفردُ حُرًّا، وتكون إرادته مرتهنةً جزئيًا بإرادة الدولة. والتعاقدُ عند هيغل يُنشئ المجتمع المدنيّ الذي يتكوّن من أفراد مستقلين، لكلّ منهم ذاتٌ حرّة لا تَحدُّها إلا حريّة الذات الأخرى. وهذا الطرح شكّلَ أهميةً كبيرةً لأنّه يرى أنّ تفاعل كلّ إنسانٍ مع الآخر هو الذي يجعله يدرك العالم، وبالتالي أبرز أهمية التفاعل الاجتماعيّ، وطرح فكرةَ أن التشابه في مصالح مجموعةٍ من الأفراد تدفع بهم لأن ينتظموا في تنظيمات اجتماعيّة، لتكريس التعاون والتضامن.

فالمجتمع المدنيّ بالنتيجة هو مجتمعُ الحاجة، يتحرّك فيه الأفراد لإشباع حاجاتهم بكلّ حريّة، وهو يتوسط الأسرة والدولة، ويقوم بوظيفة الوساطةِ بين الفرد والجماعة، وتأتي الدولة لتوفّق بين الجزئيّة والكليّة. فأساسُ المجتمع المدنيّ هو: عدم قدرة أيّ فرد على الاكتفاء بذاته، ثم علاقات الاعتماد المتبادل، ثم تلازم المجتمع المدنيّ مع الدولة[3]


حاول هيجل من خلال نظريته عن المجتمع المدنيّ تخفيفَ الصراعات الاجتماعيّة عبر رؤيةٍ تقوم على التوازن بين الملكيّة الخاصة والأنانية الفرديّة من جهة، وإشكاليةِ الإفقار والاغتراب من جهةٍ أخرى، من دون التنازل عن حريّة الفرد وحقّه في التعاقد.

بعد وفاة هيغل بعشرة أعوام اندلعت ثوراتُ ما سُميّ “ربيع الشعوب الأوربيّة” 1848 في أكثر من خمسينَ بلدًا أوربيًّا اختلفت مطالبها بحسب الظرف الذي تعيشه كلّ دولةٍ وتحتَ أيّ سلطة، لكن ما كان ثابتًا أن معظم الثوراتِ كانت تفرض نفسها في مواجهة السلطةِ التي لم تكن تعبّر عن طموحاتِ ومطالبِ الأفراد، وراكمت الفكر الديموقراطي كتجربةٍ عمليّةٍ تعيشها وتختبرها الشعوب، وأَسست في الوقت عينه لدور مجتمعٍ مدنيٍّ فاعلٍ ونشطٍ.


ثورات الشعوب الأوربية 1848:

بدأت الانتفاضات بثورة أهالي باليرمو الإيطاليّة على حكم آل بوربون في ١٢ كانون الأول. ولحقتْ بها باريس بعد شهر، وكرّت المسبحة فلحقتْها ميلانو والبندقيّة ونابولي وفيينا وبراغ وبودابست وكراكاو وبرلين وكولن. تأثّر بها أكثر من خمسين بلدًا وصولًا إلى البرازيل. تعدّدت العوامل التي أطلقت الثورات بقدْر ما تعدّدت الأهداف. أبرز عوامل تلك الانتفاضات النتائج الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة للثورات الصناعيّة – من بطالة وفقر وهجرة مدينيّة وظروف عمل قاهرة – والتوسّع الرأسماليّ الذي أخذ ينخر بنية الأنظمة الملكيّة الاستبداديّة ويطرح قضيّة توحيد الأسواق المحلّيّة.
الثورات في وجهٍ منها ثوراتٌ ديمقراطية تطالب بالملكيّات الدستوريّة أو بإعلان الجمهوريّة واعتماد الاقتراع العامّ وتأمين حريّة الصحافة والرأي والاجتماع. والثورات في وجهٍ آخر ثورات تحرّر وطنيّ ووحدةٍ قوميّة. عرفت المقاطعات الإيطاليّة والإمارات الألمانيّة والمجر وسويسرا وأيرلندا نزعات انفصاليّة كما في صقلية ضدّ حكم أسرة آل بوربون وفي المجر الساعية إلى الانفصال عن النمسا. في المقابل، جاءت الثورات في كلٍّ من ألمانيا وإيطاليا في سياق النضال من أجل تحقيق الوحدتين الألمانية والإيطاليّة بتجميع عدّة ممالك وإماراتٍ ومقاطعات. في أمكنةٍ أخرى.
في الآن ذاته، اتّخذت الحركات الاجتماعيّة طابعًا لا يخلو من الحِدّة. انتشرت الانتفاضات الفلاحيّة المعادية للإقطاع ونجحت في إلغاء القنانة في النمسا وبروسيا في أواسط القرن. وأخيرًا ليس آخرًا قامت انتفاضاتٌ عمّاليّة في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، عبّرت عن ردود الفعل الأولى على التصنيع والرأسماليّة، وخرجتْ من صلبها تيّارات عماليّةٌ واشتراكيّةٌ لم تكن لتكتفي بالمطالبة بتحسين مستوى معيشة العمّال وشروط عملهم، بل دعتْ إلى تنظيمٍ اجتماعيٍّ جديد قائم على الحريّة والمساواة.

(طرابلسي، 2018)


[1] جورج فريدريش هيغل (1770 – 1831) فيلسوف ألماني من أبرز فلاسفة المدرسة المثالية. 

[2]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 61.

[3] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 49-48

ثانيًا: مجالاتُ نشاط منظمات المجتمع المدنيّ

يعمل المجتمع المدنيّ في كافة مناحي الحياة بالعموم، لسدّ الفجواتِ، وخلق التوازن بين المساحات المشتركة وحماية حقوق الأفراد والجماعات على حد سواء. في هذا الإطار عَمِلت جامعة جونز هوبكنز على تصنيف الأنشطة التي يعمل بها المجتمع المدنيّ إلى اثني عشر مجالًا رئيسيًّا للنشاط، ويتضمن البعض منها مستوياتٍ فرعيّة؛ وهي: (الثقافة والإبداع، التّعليم والبحث، الصّحة، الخدمات الاجتماعيّة، البيئة، التنميّة والإسكان، الحقوق والدفاع والمدنيّة، المنظمات الخيريّة، المنظمات الدوليّة غير الحكوميّة، المنظمات الدينيّة (ولها معايير وتصنيف يحكمها) منظمات الأعمال والمنظمات المهنيّة والعماليّة، أخرى لها خصوصية وليس لها مكان في التصنيف[1].

وبالمقابل وفي الإطارِ العملياتيّ والتطبيقيّ الذي تعتمده الأمم المتحدة في تدخلاتها، قسّم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية[2] قطاعات العمل إلى عشر قطاعات: وهي (التعليم، الصّحة، التغذيّة، الأمن الغذائيّ، إدارة وتنسيق المخيمات، اللوجستيات، التعافي المبكّر والتنميّة، خدمات المياه والصرف الصحيّ والنظافة، المواد غير الغذائيّة والمأوى، الحماية وضمنه (حماية الطفل، والمرأة، ومكافحة الألغام، الأرض والمسكن والممتلكات)[3].


بالإطارين السّابق يمكن تصنيف القطاعات التي يعمل بها المجتمع المدنيّ إلى قطاعات رئيسية تضمّ بطبيعة الحال قطاعاتٍ فرعيّة بداخلها، وهي: 

  • قطاع الدفاع عن المصالح المهنيّة: ويضمّ النقابات التي هي تنظيماتٌ تضمّ المشتغلينَ بمهنة، أو حرفة، أو صناعة، أو خدمة. والروابط المهنيّة التي هي تنظيم يضمّ ذوي المواهب الفنية أو العلميّة أو ممّن تجمعهم طبيعةٌ مهنيّةٌ واحدة. والاتحادات المهنيّة: وهي ملتقى النقابات والروابط المهنيّة المكونة له. وتهدف هذه إلى حماية مصالح أعضائها والدفاع عن حقوقهم المهنيّة، ورفع الكفاءة المهنيّة لديهم، وتفعيل دورهم في تأكيد وترسيخ سلطتهم كقوّة فاعلةٍ في المجتمع، والمشاركة مع الجهات الرسميّة في وضع مشاريع القوانين واتخاذ القرارات ذات العلاقة بالعمل في المهن والصناعات والخدمات. 
  • قطاع الإعلام والتّواصل: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف خلق إعلامٍ بديلٍ مستقلٍ يهدف إلى نشر مبادئ حقوق الإنسان ومفاهيم العمل التطوعيّ، واستخدام الإعلام للدفاع عن الحقوق وقضايا المجتمع والتعبير عن مصالحه واهتماماته.
  • قطاع الديمقراطية وحقوق الإنسان: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تعزيز الديمقراطية في المجتمع على مختلف المستويات. كما تنشط كدورِ المراقبِ على عمل البرلمان والحكومة بما يخصّ التشريع والقوانين، وترصدُ أيّ انتهاكاتٍ من الممكن أن تقعَ على الحرّيات والحقوق. ومن جهة ثانية تعمل مع المجتمع من ناحية الدفاع عن حقوق المجموعات الثقافيّة والأقليات والشعوب الأصليّة، بما يُسهِمُ في حماية حقوقهم كمجموعات في مواجهة توغل الأكثريّة، وحرمانهم من حقوقهم المشروعة، كما تعمل في دور توعيّةٍ وتثقيفٍ وتمكينٍ حقوقيٍّ وسياسيٍّ للأفرادِ، في سياق بناء اتجاه عام حول الحريات والحقوق والمواطنة.
  • قطاع الشفافيّة والحوكمة وسيادة القانون: حيث تعمل منظمات المجتمع المدنيّ في هذا القطاع على مراقبة كلّ عمليات الحكم ومؤسساته، وتقوم بتقييم مدى شفافيتها ونزاهتها أمام الجمهور، كما ترصد القوانين التي من شأنها تقييدَ حرّيةِ الوصول إلى المعلومات أمام عُمومِ المواطنين، وصولًا للدفع باتجاه المُحاسبة والمُساءلة بما يضمن شفافيّةً ووضوحًا من قبل جميع هيئات الحكم في المجتمع.
  • قطاع الدعم القانوني: تَنشطُ من خلاله تنظيماتُ المجتمع المدنيّ بهدف توفير المساعدة القانونيّة للذين لا يستطيعون تحمل تكاليف التمثيل القانونيّ أو القدرة على الوصول الى النظام القضائيّ والمحاكم، كما تعمل في سبيل تطوير القوانين وتغييرها لتصبح أكثرَ عدالةً وإنصافًا بين الناس وتساهم في توفير الوصول إلى العدالة.
  • قطاع الدّعم الطبيّ والصحيّ: وهو القطاع التي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف توفيرِ الخدمات الصحيّة والطبيّة لأكبرِ عدد ممكن من الناس، وخصوصًا الفئاتِ المهمشة والفقيرة، والذين لا يستطيعون تحمّل تكاليف هذه الخدمات أو لا يستطيعون الوصول لها، كما تعمل على زياد الوعي الصحيّ لدى أفراد المجتمع والممارسات الصحيّة.
  • قطاع التعليم: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف النهوض بواقع التربية والتعليم في مجتمعاتهم، من حيث المساهمة في عملية صناعة وتوجيه السياسات التربوية والتعليمية، وتعميق ثقافة المواطنة. أمّا في بلدان النزاعات فتضطلع منظمات المجتمع المدنيّ بدورٍ رائدٍ في العملية التعليميّة يصل إلى حدّ إدارتها بالكامل مع انسحاب المؤسسات الحكوميّة في بعض المناطق.   
  • قطاع الصّحة النفسية: وهو القطاع الذي تَهدِفُ منه تنظيمات المجتمع المدنيّ تهيئةَ ظروف العيش والبيئات المناسبة لدعم الصّحة النفسيّة. ويشمل ذلك اتخاذَ طائفة من التدخّلات التي تزيد من حظوظ عدد أكبر من الناس في التمتّع بمستوى أفضل من الصّحة النفسيّة.
  • قطاع حماية البيئة: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلال تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف المحافظة على البيئة وحمايتها من خلال: رصد ما يحدث في البيئة، التقاضي بالنيابة عن البيئة، ومراقبة التشريعات التي تصدر ومن شأنها الإضرار بالبيئة، بالإضافة للعمل على سن قوانين لحماية البيئة من الممارساتِ الجائرة للبشر. إلى جانب العمل التوعوي للمواطنين بأهميةِ الحفاظ على الفضاء المادي لوجودهم. 
  • قطاع حماية التراث الماديّ واللاماديّ: تعمل من خلاله منظمات المجتمع المدنيّ على توثيق الأماكن التراثيّة الأثريّة والعمل على حفظها وصيانتها، ومنع أيّ تعدٍي عليها من أيّ طرفٍ كان، وأيضًا توثيق التراث اللاماديّ من قصصٍ وسيرٍ وأغانيّ وأهازيج ورقصاتٍ تراثيّة…الخ، وحِفظها وصيانتها بما يعبّر عن هويّة المجتمع التاريخيّة. 
  • قطاع التنميّة الاجتماعيّة والثقافيّة: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تنميّة العلاقات بين أفراد المجتمع وفقَ معاييرَ واضحة. وتنميّة الثقافة كركيزةٍ أساسية من ركائز التنميّة.

قطاعاتُ عمل تُعنى بفئات محددةٍ في المجتمع: 

  • قطاع حقوق المرأة: بالاستناد إلى الحيف الواقع على المرأة كفئةٍ مهمّشةِ الحقوق، منقوصةِ المواطنة في المجتمعات، تَنشطُ منظمات المجتمع المدنيّ، ومن ضمنها المنظمات النسوية في الدفاع عن حقوق النساء على كافة المستويات، ابتداءًا من مناهضة جميع أشكال العنف ضدّها داخل منزلها وفي أماكن العمل. وما يتضمنه ذلك من توفير الرعايّة القانونيّة والنفسيّة والاجتماعيّة وأماكن الحماية، مرورًا بتمكين المرأة وتوعيتها بحقوقها كافة، وصولًا إلى تغيير القوانين التي تنتقص من حقوق المرأة كمواطنة في المجتمع، والعمل على سنّ قوانينَ بديلة تحقّق العدالةَ والمساواة لها.
  • قطاع حقوق الطفل: ويهدف إلى ضمان تمتع الأطفال بحقوقهم الأساسية الكاملة، وضمان عدم انتهكاها من أيّ طرف كان، إلى جانب جُملةٍ كبيرةٍ من الخدمات والدعم الذي يُقدّم بهدف تحقيق أعلى مستوًى لتمتع الأطفال بحياةٍ صحيّةٍ ونفسيّةٍ واجتماعيّةٍ سليمة. ويشملُ هذا القطاع جملة كبيرة من التدخّلات في مرحلة الطفولة المبكّرة مثل (زيارة الحوامل في البيوت، والاضطلاع بالأنشطة النفسيّة-الاجتماعيّة في المرحلة السابقة للالتحاق بالمدرسة، والجمع بين تدخلات التغذيّة والمساعدة النفسيّة الاجتماعيّة لصالح الفئات المحرومة)؛
  • قطاع تمكين الشباب: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف تنمية معارفهم ومهاراتهم وقدراتهم؛ من خلال العمل معهم وتعزيز قدرتهم على المشاركة في قيادة وتنفيذ السياسات العامة، وذلك ضمن المجالات التالية: (المجتمعيّة، الثقافيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة، النفسيّة، التنظيميّة)
  • قطاع خدمات ذوي الاحتياجات الخاصة: وهو القطاع التي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف حماية ذوي الاحتياجات الخاصة من أيّ تمييز، وادماجهم وقضاياهم كجزءٍ أساسيٍّ من التنمية، بالإضافة إلى تقديم الخدمات اللازمة لهم، وخلق المساحات الصديقة لهم والتي تساعدهم على تجاوز احتياجاتهم وتعزيز استقلالهم الذاتيّ واعتمادهم على أنفسهم، والوصول للاعتراف بمساهمتهم في تحقيق رفاه مجتمعاتهم، وأنّهم جزءٌ من التنوع الطبيعيّ لهذه المجتمعات.
  • قطاع رعاية المسنين: وهو القطاع الذي ينشط من خلاله المجتمع المدني في رعاية الكبار في السن، وتقديم الخدمات الطبية والنفسية والاجتماعية لهم، إلى جانب خدمات الإيواء والإطعام. 

أمّا في بلدان النزاع، فيضطلع المجتمع المدنيّ بجملةٍ كبيرةٍ من المهامِ الجديدة إلى جانب القطاعات الأخرى، إذ يتحمّل أعباء كثيرة تجاه المجتمع، خاصةً في ظل انسحاب المؤسسات الحكوميّة من الأدوار التقليديّة المنوطة بها، أو ضعف أدائها وانخفاض جودة خدماتها، حيث يبرز دور المجتمع المدنيّ بما يملكه من قدرة ماليّة وتنظيميّة ومرونة في العمل والتنفيذ. تشمل القطاعات التي تَنشطُ بها المنظمات المدنيّة أثناء النزاعات وبعدها إلى جانب القطاعات أنفة الذكر: 

  • قطاع بناء السّلام وإدارة النزاعات: وهو القطاع الذي تَنشطُ من خلاله تنظيمات المجتمع المدنيّ في التعامل مع الأسباب الكامنة وراء اقتتال الناس فيما بينهم في المقام الأول، إلى جانب دعم المجتمعات لإدارة خلافاتها ونزاعاتها دون اللجوءِ إلى العنف. كما تعمل على تعزيز الحواراتِ على مختلف المستويات، و”نقل مشكلات النزاع خارج الوضع السلبي (الذي ينظر الناس فيه لأنفسهم بأنهم مستبعدون أو عاجزون، أو الوضع الذي يفوز فيه أحد الطرفين فقط أو كلا الطرفين يبقيان غير راضين)، إلى بيئةٍ إيجابيّةٍ يعمل فيها الناس معًا للتنبؤ بتلك المشاكل، ولديهم الحافز لحلّها من أجل تحقيق الفائدة القصوى من تعاونهم. 
    وفي النزاعات المسلحة يكون دور المجتمع المدنيّ أشدّ صعوبةً وخطورةً، ولكنّه يضطلع في إمكانية أن يتم بناء السّلام على كافة المستويات بما يشكل العودة إلى وضع التوازن الذي يحفظ حقوق وحرّيات جميع الأفراد، ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك هو الدور الذي لعبته كتلة العمل من أجل السلام في تحقيق السلام في ليبيريا[4] أعقاب الحرب الاهلية الثانية.
  • قطاع الإغاثة الإنسانيّة: تَنشطُ من خلاله تنظيماتُ المجتمع المدنيّ بهدفِ دعم مقوماتِ الحياة للفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع أو الأفراد أو الجماعات الذين اضطروا لمغادرةِ أماكنهم لظروف خارجة عن إرادتهم وتشمل تقديم المساعدة الغذائية وغير الغذائية كدفعِ أجارت المنازل أو إنشاء المخيمات وتقديم السلل الغذائيّة والصحيّة، وغيرها.
  • قطاع التعافي المبكّر والتنميّة: وهي طريقة تلبي احتياجات التعافي التي تنجم خلال المرحلة الإنسانيّة في أيّ حالة طارئة وذلك عن طريق استخدام الآليات الإنسانيّة التي تتسق مع مبادئ التنمية. الأمر الذي يمكّن البشر من جني فوائد الأعمال الإنسانيّة، واقتناص فرص التنميّة وتحقيق القدرة على الصمود وإرساءِ عمليةٍ مستدامةٍ للتعافي من الأزمة، ويشمل التعافي المبكّر أربعةَ أنواعٍ من البرامج وهي: (سبل المعيشة، البنية التحتيّة الأساسيّة والتأهيل، الحوكمة وسيادة القانون، استثمار بناء القدرات لدى الأشخاص).[5]
  • قطاع التعامل مع مخلفات الحرب والتوعيّة بها: تَنشطُ فيه تنظيمات المجتمع المدنيّ بهدف التعريف بمخلفات الحرب غير المنفجرةَ وأشكالها وأحجامها وأنواعها، والأماكن الخطرة، والإشارات والآثار التي تشير إلى وجود مخلفات حربٍ غير منفجرة، وإجراءات السلامة. وذلك بهدف حماية أفراد المجتمع من أضرارها على مختلف المستويات.

وبطبيعة الحال، يجب التنويه إلى أنه لا يوجد قطاعُ عملٍ مستقلٍ عن الأخر، فتحقيقِ الغايات في المجتمع يتطلب مقارباتٍ متعددةِ الاختصاصات ليتمّ الإيفاء بالأهداف التي تسعى إليها منظماتِ المجتمع المدنيّ، ما يفرض ضرورة التشبيك بين المنظمات مختلفة الاختصاصاتِ بما يحقق أعلى كفاءةٍ وفاعليّةٍ بالعمل وتحقيق الهدف المجتمعي.  


تجربة النساء الليبيريات:

نساء ليبيريا كتلة العمل من أجل السلام هي حركة سلام تشغلها النساء في ليبيريا في أفريقيا، عملت على إنهاء الحرب الأهلية الليبيرية الثانية.
بدأت الحركة بآلاف النساء المحليات بالقيام بالصلاة والغناء في سوق السمك يومياً لعدة أشهر. وفي عام 2003 أثناء الحرب الأهلية الليبيرية الثانية، أجبرت نساء ليبيريا الرئيس تشارلز تايلور على لقائهن، وانتزعن منه وعداً بحضور محادثات السلام في غانا للتفاوض مع المتمردين من الاتحاد الليبيري من أجل المصالحة والديمقراطية. وتوجه وفد من نساء ليبيريا إلى غانا لمواصلة الضغط على الفصائل المتحاربة أثناء عملية السلام. نظمت الكتلة اعتصاماً خارج القصر الرئاسي، وشكلن قوة سياسية ضد العنف وضد حكومتهن.
وكانت أعمالهن سبباً للاتفاق خلال محادثات السلام المتوقفة. ونتيجةً لذلك، أصبحت النساء قادرات على تحقيق السلام في ليبيريا بعد حرب أهلية استمرت 14 عاما وساعدن بعدها على تنصيب أول رئيسة امرأة للبلاد، إلين جونسون سيرليف.

(مكتبة نور، بلا تاريخ)



[1]  أماني قنديل (2008) ص70.

[2] يعرف اختصارا OCHA هو مكتب تابع للأمم المتحدة تشكل في 19ديسمبر 1991 بموجب قرار الجمعية العامة 46/182. ويهدف القرار إلى تعزيز استجابة الأمم المتحدة لحالات الطوارئ المعقدة والكوارث الطبيعية من خلال إنشاء إدارة الشؤون الإنسانية (DHA) ، يعد بمثابة هيئة مشتركة بين وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية في المجال الإنساني. المنتج الرئيسي هو عملية النداءات الموحدة، وهو الدعوة وأداة للتخطيط لتقديم المساعدة الإنسانية معا في حالة طوارئ معينة

[3] OCHA. (n.d.). humanitarianresponse

[4] -يمكن مشاهدة الفيلم الوثائقي “نصلي ليعود الشيطان إلى الجحيم” وهو فيلم يوثق جهود كتلة العمل من أجل السلام في تحقيق السلام في ليبيريا.

[5]  جهال رابيسهال دي مرتينس، جاني الوري وايت، آن ديفيس، ستوارت كيفورد، سايلك هنادلي. ((2016 INEE

الأقسام الإدارية التنفيذية للمنظمات المدنيّة:

يتبع بناء الخطة الاستراتيجيّة التي سبق ذكرها، مرحلة التخطيط التنفيذيّ الذي يُبنى بالضرورة على الخط العام المعتمد للمؤسسة، ووفقا لقيمها ورؤيتها. ويعدّ التخطيط التنفيذيّ هو المرحلة التي تحول المؤسسة أفكارها ورؤاها وطموحاتها، إلى توجهاتٍ فعليّة وأهدافَ محددة وبرامج عمل. أي هو وضع الخطة الاستراتيجيّة في سياقِ برنامجٍ زمنيٍّ وماليٍّ وإداريٍّ. يمثّل الشكل أدناه دورة حياة العمل في المنظمة، والذي يوضّح الخطة التسلسليّة لحياة المنظمة إلى جانب التشابكات في كلّ منها[1]:


يمكن التمييز وفقا لدورة حياة المنظمة، بين خمس أقسام أساسيّة داخل المنظمة، والتي تزيد وتنقص باختلاف طبيعة وحجم أنشطة المنظمة. وجود هذه الأقسام مرتبطة بوجود مصدر تمويلي للمشاريع، وتعد مخرجات كل قسم من هذه الأقسام؛ متطلّبات أساسية للحصول على التمويل، ولإثبات الشفافيّة والنزاهة أمام المانح بالدرجة الأولى، وأمام الجهات الحكوميّة الرسميّة ذات الصلة، وأما أعضاء المنظمة نفسها والمجتمع المستهدف. وهذه الاقسام هي: (التمويل، البرامج، الإدارة المالية، المتابعة والتقييم، الموارد البشرية، المناصرة، الأبحاث). 

أولًا: قسم التمويل:

 يعد التمويل؛ عملية تبادلية بين مانح ومتمول يريدان كلاهما إحداث فرقٍ إيجابيّ في المجتمع المستهدف. بمعنى أنها عمليّة تشاركيّة وحاجة متبادلة لدى الجهتين، فكما أنّ طالب التمويل يسعى جاهدًا للحصول على جهةٍ مانحةٍ؛ فإنّ الجهات المانحة[2] تبذل جهدًا ليس بالقليل لتمويل مشاريعَ قادرةٍ على إحداث تغيير إيجابيّ. 

يضطلع قسم التمويل داخل المنظمة في إيجاد فرص تمويليّة لبرامج وأنشطة المنظمة، وكتابة مقترحات المشاريع. إذ تتمّ عملية البحث عن التمويل عادةً من خلال التعرّف على الجهات المانحة (أهدافها استراتيجياتها، نوعية المشاريع التي تموّلها الجهة التابعة لها، شروط التمويل، حجم المبالغ المقدّمة، تواريخ التقديم للتمويل). هذا بالنسبة لمصادر التمويل من منظمات كبيرة أو حكومات، والامر ينطبق على مصادر التمويل من القطاع الخاص، ومن الأفراد في المجتمع.
ويُعتبر طلب التمويل؛ عمليةً استثماريّة -بالمعنى الرمزيّ للكلمة- بمعنى أنها تتعدّى لحظيّة التمويل الحالية، إلى بناء علاقةٍ طويلةِ الأمد مع الممولين؛ الأمر الذي يحتاج جهدًا ووقتًا ليس بالقليل بحيث يكون الهدف في النهاية النجاح في بناء شبكةٍ من الممولين تتألف بمعظمها من ممولينَ دائمين يقدمون منحًا صغيرةً على أُسسٍ ثابتةٍ ومستمرةٍ.[3]

معايير التمويل: عمومًا لا توجد طريقةٌ ثابتةٌ أو وصفةٌ سحريّةٌ لإقناع المانحين بتمويل المشروع المقدّم. لكن ما يساعد على ذلك هو التركيز على كتابةِ المشروعِ بطريقةٍ منطقيّةٍ لتقديمهِ بطريقةٍ مناسبة وإبداءِ قدرٍ من المرونة والابداع، إلى جانب مجموعةٍ من المحدداتِ والمعايير التي ينظرُ إليها المانح أثناء تقييمه للمنظماتِ التي يفكّرُ بتمويلها: 

  1. معايير إداريّة: مثل وجود وضعٍ قانونيٍّ للمنظمة[4]، امتلاكها لنظام داخليّ وسياسات وإجراءاتٍ وفقَ معايير محددةٍ غالبًا ما تكون تضمن درجةً عاليةً من الحوكمةِ.
  2. معايير فنيّة: والتي تتضمن مجال عمل المنظمة وخبرتها، المشاريع والأنشطة السابقة، مستوى الوصول على المستوى البشريّ والجغرافيّ للمجتمع.
  3. معايير ماليّة: تتمثّل في وجود سياساتٍ ماليّةٍ معتمدةٍ، وأيضًا وجود تقييم ماليّ من جهة خارجيّة للإجراءات المالية في المنظمة خلال المشاريع السابقة وهذه غالبًا ما تكون في المنظماتِ الكبيرةِ التي لديها مشاريع. 
  4. معايير أخرى: حيث تنظر الكثير من المنظمات إلى التوجّه السياسيّ للمنظمة إلى أيّ حدٍّ يتوافق مع توجّهها، حيث يسهّل هذا الأمرُ على المنظمات المانحة بناءَ العلاقةِ في حال كانت المبادئ الأساسيّة متشابهةً. إلى جانب معايير متعلقةٍ بالمكان والقطاع حيث غالبًا ما تكون سياسات التمويل موجّهة لدعم قطاعٍ ومكانٍ محددين، على سبيل المثال تقوم جهةٌ مانحةٌ بتقديم منحٍ تمويليّةٍ لقطاعِ التعليم في شمال غرب سورية، في هذا الإطار سوف تمنع الجهة المانحة المنظمة المُمولة صرف أموال المنحة خارج القطاع والمكان الذين تمّ تحديدهما كشرطٍ مسبقٍ لتلقي المنحة الماليّة، وهنا يطرح التساؤل الهام في كيفية إدارة المنظماتِ لهذه التحديات والتوفيق بين رؤيتها في القطاع والمكان الذي تعمل بها، وبين قيود وأجندات المانح، في إطار حاجتها للتمويل.

وبالنسبة للتمويلات القادمة من القطاع الخاص أو الأفراد، يكون هنالك جهد مبذول في إطار تنظيم حملات مناصرة تخاطب الجمهور المستهدف وتقنعه حول القضية المراد تمويلها. 


ثانيًا: قسم البرامج والمشاريع:

 يعد المشروع سلسلة نشاطاتٍ تسعى لتحقيق أهدافٍ معينةٍ، يتمّ تنفيذها خلال فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وضمن إطار موازنة معتمدة. بينما البرنامج هو إطارٌ يضمُّ داخلهُ مجموعةَ مشاريعٍ تعمل جميعها لتحقيق الهدف الذي أُنشأ من أجله البرنامج، على سبيل المثال برنامج حماية النساء المعنّفات في منظمة ما، قد يضمُّ داخله: (مشروع الإيواء، ومشروع الحماية القانونيّة، ومشروع التعافيّ النفسيّ، ومشروع التمكين والتأهيل) جميع هذه المشاريع تصبُّ في البرنامج الأكبر وهو حماية النساء. 

يمرُّ المشروع بدورةِ حياةٍ مؤلفةٍ من أربعةِ مراحلَ وهي (التخطيط، التحليل، التنفيذ، المتابعة والتقييم). ويوضّح الشكل التشابكات التي تبدأ منذ اللحظة الأوّلى للفكرة، فمثلا نجد التخطيط يسبق مرحلة التحليل في البداية، ولاحقا يسبق التنفيذ بعد الانتهاء من مرحلة التحليل. [5]


ثالثًا: قسم المتابعة والتقييم:

 المتابعة هي عملية منظّمةٌ ومخطّطةٌ ومستمرةٌ، تتمّ بصفة دوريّة على مدار عمر المشروع لجمع المعلومات عن المشروع من ناحيةِ ما تمّ إنجازه، وهل تمّ إنجازه بالوقت المحدد، بالإضافة للتحديات التي يواجهها تنفيذ الأنشطة؛ والغرض من ذلك المساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة من قِبل إدارة المشروع. أمّا التقييم: فهو عمليةُ قياسِ مدى نجاح مشروعٍ أو برنامجٍ في الوصول للأهداف المخطط لها مسبقًا.

وكلاهما -التقييم والمتابعة- يستند في عمله إلى مؤشرات كميّة ونوعيّة محددةٍ بشكلٍ مسبقٍ في مقترح المشروع المقدّم للمانحِ، وتَستخدمُ في سبيل تحقيق ذلك جملةً من أدواتِ التحقّقِ المختلفة. والتقاريرِ الصادرة عن قسم المتابعة والتقييم تُطلبُ من قِبلِ الجهة المموّلة التي تُتابع من جهتها -وعبر قسم المتابعة والتقييم لديها- سير المشروع الذي تمّ تقديم المنحة المالية له. 

ويجدر التنويه إلى أن المتابعة والتقييم هي عملية لا تقتصر على المشروعات الممولة، إنما هي عملية اكبر من ذلك بكثير، فهي تعد واحدة من الأدوات التي يتم اللجوء إليها لمعرفة إلى أي حد المنظمة تسير في إطار الرؤية والأهداف التي تتبناها. حيث يعد من أهم الأدوات التي يستخدمها مجلس الأدارة والهيئة العامة في تقييمهم السنوي للمنظمة ككل. 


رابعًا: القسم المالي:

يختصّ بإدارة الموارد المالية للمنظمة والهدف تحقيق الفاعلية العظمى لأهداف المنظمة. وعلى الرغم من أن هدف منظمات المجتمع المدنيّ غيرُ ربحيّ؛ إلّا أنّ هذا لا يعني أنْ تكون مبذّرة أو غير فعّالة أو ألّا تسعى لتحقيق هدفها بالجودة المطلوبةِ بأقلِ التكاليفِ الممكنةِ؛ هذا الموضوع مهمٌّ لسببين: الأول هو صعوبةُ الحصولِ على التمويل بفعلِ المنافسة المتزايدة، حيث يُمنح التمويل للمنظمات الكُفء التي تستطيعُ أن تخدم عددًا أكبرَ من المستفيدين بنفس الموارد. والسبب الثاني داخليٌّ يتعلق بالإدارة والرقابة الداخليّة للمنظمة للتأكّد من حسنِ استخدام وصرف التمويل من قبل فريق العمل حتى في حالِ غياب الرقابة الخارجيّة.[6]

أمّا التدقيق المالي: فهو إجراءُ مراجعةٍ مستقلةٍ للنظامِ المالي وللبيانات الماليّة للمنظمة من قبل مختصين ماليين. بعض الدول تطالب جميع المنظمات الربحيّة وغير الربحيّة بإجراءِ تدقيقٍ ماليٍّ سنويٍّ ضمن القوانين الناظمة، بينما يكون هذا الاجراءُ اختياريًّا في دول أخرى.[7]


أقسام أخرى:

يضافُ إلى الأقسامِ السّابقة، أقسامٌ متخصصةٌ تَتبَعُ لنوعِ أنشطةِ المنظمةِ، وكِبَرِ حجمها، والعمليات الداخليّة والخارجيّة التي تقوم بها، ومنها: 

  1. قسم الموارد البشريّة: وهو القسم المعني بإدارة شؤون الموظفين والمتطوعين إداريًّا، والمسؤول عن صقل خبراتهم ومهاراتهم. 
  2. قسم المناصرة والتواصل: ويعد قسمًا رئيسيًّا في معظمِ المنظماتِ، لدوره الهام في الحشد والتنظيم المجتمعي، للتأثير في السياسات أو تغييرها. 
  3. قسم العمليات والدّعم اللوجستيّ: يكون مهم في المنظماتِ التي لديها كمٌّ كبيرٌ من العمل مع شركاء من القطّاع الخاصِ والحكوميّ والمشترك، حيثما يتطلّب الأمر قسمً متخصّصًا لإصدارِ الأذونات والموافقات اللازمة، إلى جانب الحجوزات وتأمين الموارد اللازمة للأنشطة، وما إلى هنالك من الأمورِ اللوجستيّةِ. 
  4. قسم الأبحاث والدراسات: في المنظمات التي تُصدرُ باستمرارٍ أبحاثًا أو أوراقًا بحثيّةً أو أوراق سياساتيًّة، فهي تقوم بإنشاءِ وحدةٍ متخصصةٍ لإنجاز مثل هذه المنتجات. 

كخلاصة عامة للجزء المتعلق بالمنظمات يمكن تلخيص النقاط التالية: 

المنظمات المدنية هي الشكل المنظم من المجتمع المدني، الذي تم إيجاده لأغراض تنظيمة تساعد المنظمات في إدارة أصولها المالية بطريقة شفافة أمام الحكومات والمانحين والمجتمع ككل. 

في كثير من الأحيان يكون وجود ترخيص للمنظمة مقيد لها ومعيق لحريتها. وفي بعض الدول تكون فوائد عدم الترخيص تفوق بكثير وجود ترخيص قانوني، لذلك وجب على الأفراد الناشطين في المجال المدني تقييم خطوة حصولهم على ترخيص قانوني في إطار الفوائد والمثالب التي من الممكن ان يتعرضوا لها في إطار ناشطيتهم.

عموما يمكن القول إن وجود هذا الشكل المؤسسي للمنظمات المدني يستلزم جملة من العناصر الضرورية الواجب توافرها بها لتبقى المنظمة مصنفة ضمن الحيز المدني وعلى رأسها أن تكون غير تابعة للحكومة أو لطرف سياسي، وأن تكون غير ربحية ولا تهدف إلى الربح. 

ولضمان بقائها على السكة المدنية وفقاً للأهداف التي وضعتها لنفسها أثناء العمل وتنفيذ الأنشطة، في إطار الدور النقدي الملتزم بالدفاع عن الحقوق والحريات، يستلزم ذلك وجود ثلاثة أركان داخل المنظمة؛ (امتلاكها لهوية واضحة ومعلنة، مستوى عالي من الحوكمة الرشيدة، وجهاز تنفيذي). 


[1] فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية، ص 11.

[2] – لا تقتصر عملية تمويل المجتمع المدني على الهيئات والمنظمات الدولية، او حكومات الدول، وإنما تتعداها لتشمل الشركات والبنوك، وتبرعات الأفراد، ومصادر تمويلات من منظمات أخرى لها أهداف متقاطعة مع المنظمة المتمولة. 

[3] فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني، ص 21.

[4] – يختلف شرط وجود التسجيل القانوني للمنظمة بحسب المانح، هنالك بعض المانحين ممن يقدمون تمويلات صغيرة ومتوسطة للفرق والجمعيات والمنظمات لا يشترطون وجود هذا التسجيل، ولكن الأغلبية يشترطون وجود التسجيل القانوني وخاصة في حال وجود منح كبيرة مقدمة، وفي بعض الحالات تلجأ المنظمات الصغيرة التي لا ترغب بالتسجيل القانوني إلى منظمات حاضنة تكون مرخصة والاستفادة من ترخيصها في إدارة منحتها المالية بسلاسة وبدون عوائق وفق صيغة معينة مع المانح والحاضنة.  

[5] الشكل مأخوذ من كتيب التخطيط للمشاريع وكتابة المقترحات، فريدريك إيبرت، 2013.

[6]  فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني. بيروت، ص 7

[7]  المرجع السابق، ص 23

رابعًا: المجتمع المدنيّ لدى كلّ من غرامشي وألتوسير والثورة البولنديّة

التطوّر الأهمّ والحاسم في القرن العشرين، والذي أدخل مفهوم المجتمع المدنيّ في صلب النقاش العام بوصفه “المجال الطبيعيّ لبناء الهيمنة الإيديولوجيّة المضادة لهيمنة الدولة[1]“. كان في أفكار أنطونيو غرامشي (1891-1937) المناضل السياسيّ والمفكر الاقتصاديّ الإيطاليّ الذي سُجن خلال أعمال مقاومة النظام الفاشيّ في إيطاليا، وشكّلت رسائله من السجن أحد كلاسيكيات الأدب اليساريّ المقاومِ. 

طوّر غرامشي المفهوم الماركسي المبسّط للإيديولوجيا -بصفتها وعيًا زائفًا- وجزء من البنية الفوقيّة[2]، إذ ميّز داخلها بين مستويين كبيرين: أوّلهما: المجتمع المدنيّ بالمعنى المتعارف عليه، وثانيهما: مستوى المجتمع السياسيّ أو الدولة، وكلاهما غير منفصلان وإنّما هما في علاقةٍ جدليّةٍ، تتخذ أشكالًا مختلفةً بحسب طبيعة الصراع وطبيعة السلطة. وبذلك وضع المجتمع المدنيّ مقابل الدولة، وناقش العلاقة بينهما، كما ناقش بُنّية المجتمع المدنيّ، وكذلك الفاعليّة لمنظمات المجتمع المدنيّ. 

فالمجتمع المدنيّ لديه هو هذا التركيب المتشابك والمعقد والمتسع الذي يلتقي فيه نسيجٌ متداخلٌ من التنظيمات الأيديولوجيا[3]، ويتحددُ بثنائيّة العلاقةِ مع الدولةِ بوصفهِ أداةَ سيطرةٍ واحتواء، والمجتمع بما يحويه من إرادة تحرّرٍ، واختلافٍ، وتعدّدٍ، واستقلالٍ.[4]بالمختصر حدّد غرامشي الفرق بين المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ في كون الأوّل مجال الإكراه، فيما المجتمع المدنيّ هو مجال للهيمنة المضّادة التي تمارسها السلطة.


ويشير غرامشي إلى أن العامل الحاسم في إنجاح أو إفشال الحراك الاجتماعي على المدى الاستراتيجي، هو الشرط الذاتيّ المتمثل في صنع ذاتية مجتمع المواطنين الأحرار من خلالِ المجتمع المدنيّ والمنظمات المستقلة، وبدون ذلك لن يكون ممكنًا للتغيير في المجتمع أن يحصل، بل بدلاً من ذلك ستظهر مروحةٌ واسعةٌ وغايةٌ في التنوع من الأعراض المرضية (أو المسوخ في ترجمات أخرى)، وعبارة غرامشي -بلغته الملغزة تلافيًا للرقيب عندما كان في السجن- هي: “إذا كان القديم قد مات والجديد ليس جاهزًا بعد، سيكون لدينا أعراض غاية في التنوع”. مفهوم الأعراض سيكون دلاليًّا ومحوريًّا ويُستعاد في سياق حراكات الربيع العربي في عمل جلبير أشقر: انتكاسة الانتفاضات العربية- أعراض مرضية، حيث يرى أن انتشار الأصولية والعودة الدموية للحكم العسكري والنظام القديم في دول مثل ليبيا ومصر وسوريا واليمن، من حيث هي الأعراض الغرامشية، الناتجة عن عدم وجود المجتمع المدنيّ، المؤهّل لخلق الوحدة الاجتماعية بين النشطاء السياسيين والمثقفين وبين جمهرة المواطنين ضمن إطارٍ من الحريات المدنيّة، بما يسمح للمجتمع المدنيّ بخوض حرب مواقع على المدى الطويل ضد الهيمنة الأيديولوجية للأفكار التي يروج لها النظام السياسي للدولة، ونشر القيم التّقدميّة والإنسانيّة”.[5]


طوّر لويس ألتوسير[6](1918-1990) مفهوم الأيديولوجيا لدى غرامشي، مستلهمًا النضالية الكامنة والخصوبة النظرية للمفهوم، ولكن بالبناء على النتائج السياسية للتحليل النفسي عند فرويد، مؤسسًا لفهمِ تأثير الايديولوجيا على اللاوعي الفردي، وكيف يتمفصل مع الأجهزة الأيديولوجية للدولة كالمدرسة والسجن والكنيسة… إلخ. 

وتَركّزَ عمله في جانبه المتعلق بالنظرية السياسية، على مسألة ما يفصل بين الوعي المطابق للواقع (الذي تجده عند المشتغلين بالثقافة)، والوعي الموجود عند كثيرٍ من عامةِ المواطنين، الذي تغلب عليه المبالغات وعدم الواقعية، والتأثرُ بالخطابات السياسية، والتبعية للأيدولوجيات المهيمنة، أي مسألة التمييز بين العلم والأيديولوجيا. يمكن لكثير من الناس، برأي ألتوسير، حتى لو كانوا غير مشتغلين بالثقافة امتلاك هذا التمييز، ولكنه يشدد على فكرة ليس كلّ الناس تدرك ذلك. 

وبالنسبة لألتوسير فالهيمنة المضادة المطلوب أن تحققها أي أيديولوجيا تقدمية، تبدأ من ممارسة التقليد التنويري المتعلق بنشر الوعي بالايديولوجيا أو نشر التمييز بين ما هو (علمي\مطابق للواقع)، وما هو (أيديولوجي\سياسي)، بحيث يتمكن مثلًا الإنسان السوري أو الليبي المتأثر بدعاية الأنظمة أو الحركات المتطرّفة، من إدراك أنه وبينما أنّ المربع مربع والمستطيل مستطيل و1+1=2 فإن مفاهيم مثل الوطن العربيّ أو الأمّة الإسلاميّة أو أنّ الإرادة الإلهيّة تدعم الإرهاب والتمييز بين الناس، وما شابهها من قناعات رائجةٍ ومنتشرةٍ، هي مفاهيمُ ايديولوجية تعكس هيمنةَ أصحاب المصالح الطبقيّة والسلطويّة، على أنماط تفكير المواطنين وخياراتهم.


يمكن القول من الاستعراض الموجز لأفكار كلّ من غرامشي وألتوسير التالي: 

  • بتأثيرِ أفكارِ ومناقشاتِ غرامشي، فهِمت مجتمعاتُ النشطاء العمل التنظيميّ المستقل عن المنظمات السياسيّة، والأثرَ البعيدَ للمواصلةِ بقوةٍ في العمل المدنيّ على الأرض في المنظمات الحقوقيّة والإنسانيّة، والبعد الأيديولوجي البنّاء لهذه الممارسة.
  • قد لا يرى كثيرون في المنظماتِ غير الحكومية وبيروقراطيتها الشديدة وتبعيتها للأجنداتِ الحكوميّة اليوم، مدعاةً للتفاؤل، ولكن الدرس الغرامشيّ يشير إلى أنّ الهيمنة الأيديولوجيّة للمُثُلِ الإنسانيّة تراكمٌ تاريخيّ يتأثرُ بكلّ العوامل القائمة، وأنّ تفاؤل الإرادة المفترض به أن يكمّل تشاؤمَ العقل، هو بالنهاية مسألةُ حربِ المواقعِ تلك، أيّ الرهان على العمل بصورةٍ تدعم الهيمنة المضادة التي يعمل المجتمع المدنيّ على بنائها بالشكل الذي يتيح إمكانية التغيير.

أعادت التجربة البولنديّة في أواخر الثمانينات إحياء المجتمع المدنيّ في أوربا كممارسةٍ عمليّةٍ ضد دكتاتوريّة السلطة، إذا أسهمت جملة الظروف الاقتصاديّة السياسيّة في التحشيدِ من قبل النقاباتِ بمواجهة وحشية السلطة من جهة، وتجاه مطالب بتغيير النظام السياسيّ باتجاهٍ أكثر ديموقراطيّة ومشاركة، وتغير النمط الاقتصاديّ المُتبنى، وهو ما كان.


الثورة البولندية 1988:

بدأ تراجع النظام البولندي مع لحظة بداية ارتكابه ممارسات وحشية لم تكن خاضعة للمساءلة، هو ما تمثل رمزياً في مقتل جريجوز بيرميك الشاعر ذو التسعة عشر ربيعاً، والذي قتلته قوات البوليس بوحشة في عام 1983، والتي مهدت مع أزمات التدهور المستمر في وسائل المعيشة، والصعوبات الاقتصادية والبطالة، والتفاوت ما بين السلطة والشعب، والفجوة بين الأجيال، والرقابة. الى حركة احتجاجية بعد ستة أعوام. حيث أطلقت النقابات العمالية المدعمة بالمفكرين اليساريين الشرارة الاولى في التغيير عام 1988، والتي تعالت أصواتهم بالسخط على الاوضاع في ذلك الحين بالنيابة عن هؤلاء المعدمين.
وبفعل الإضرابات التي اجتاحت بولندا، اضطر الحزب الشيوعي البولندي الحاكم إلى عقد محادثات “المائدة المستديرة” مع قادة حركة “التضامن” العمالية أسفرت عن إجراء انتخابات حرة، وتشكيل أول حكومة غير شيوعية في أوروبا الشرقية، وتحقيق الانتقال السلمي للسلطة والفصل بين فروعها.

(منتدى البدائل العربي، المعهد البولندي للشؤون الدولية، 2018)


كخلاصاتٍ سريعة: 

  • المجتمع المدنيّ صيرورة فكريّة تاريخيّة تكوّنت عبر أفكار الفلاسفة والمنظرين السياسيين الذين أضافوا للنظريّة السياسية مفهوم الدولة الحديثة، وأيضًا بفضلِ حراكاتِ وثوراتِ الشعوب التي شكّلت اختبارًا عمليًّا لقوة المجتمع المدنيّ كقوةٍ مجتمعيّةٍ في مقابل السلطة، بل يمكن اعتبار هذه الحراكات هي الأساسَ الأوّل في التغيير، وبناءِ النظام والمفاهيمِ الجديدة. فالمجتمع المدنيّ -بحسب بشارة- هو صيرورةٌ فكريّةٌ وتاريخيّةٌ نحو المواطنة والديموقراطية عبر مجموعةٍ من التمايزات في العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين المجتمع والدولة.[7]
  • يرتبط المجتمع المدني بالدولة بعلاقة جدلية من حيث اسبقية الوجود والتأثير، إلا أنه عملياً يمكن القول إن ظهور المجتمع المدنيّ الذي نعرفه؛ ارتبط ظهوره مع وجود الدولة بمفهومها الحديث القائمِ على التعاقد بين مجموع المواطنين، وهذا يعني أنّ الدولة هي الشرطُ الضروريّ للمجتمع المدنيّ كونها تعطي صفة المواطنة لأفرادها وهي التي تشكل جوهر المجتمع المدني. وبدونها -أي الدولة- يكون الشكل المتخيل على المستوى النظري هو مجتمعٌ يستند إلى العلاقات المولودة (العائلة، القوميّة، الطائفة، الدين) على حساب العلاقات التعاقديّة القائمة على المصلحة. ولعل الأمرَ الأكثر إثارةً والذي يجب أن يشار إليه في هذا السياق إلى أنّه في المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبداديّة حيثما يتحوّل دور الدولة من رعاية المجتمع إلى رعاية النخبة الحاكمة، وما يفرضه ذلك من تقييد للحريات، وسحق للحقوق السياسية والمدنية، وتقييد لمساحات عمل المجتمع المدنيّ، يكون الشكل الأبرز لتنظيم علاقات الأفراد في مواجهة تغوّلِ السلطة؛ هو اللجوء إلى البنى التقليديّة، أيّ العلاقات الوشائجيّة المولودة (كالعائلة أو القبيلة، الدين أو الطائفة، أو القوميّة)، بما تشكله من حلقات الأمان الوحيدة المتوافرة للأفراد.
  • وبالتالي فإن ثلاثيّة: الدولة كسلطةٍ قهريّة، الفرد كمواطنٍ حرّ، والمجتمع كقوّةٍ تضامنيّة فاعلة، هي ركائز المجتمع المدنيّ الذي يشغل الوسط بينها، ويعمل على خلق مستوى من التوازن؛ بحيث لا يطغى أيٌّ منها على الأخر، وبطبيعة الحال ألا يطغى أيٌّ منهما على حرّيات وحقوق الفرد. 
  • لذلك تختلف الأدوار التي يضطلع بها المجتمع المدنيّ من مجتمعٍ إلى آخر بحسب مؤشرين اثنين يؤشران إلى درجة تطوّر المجتمع: الأوّل من ناحية مستوى ترسّخ مفهوم المواطنة واقتصاد السوق وقدرة الأخير على إنتاج نفسه خارج الدولة. والعامل الثاني مدى سيطرة العلاقات التعاقدية بين الأفراد، وتفوّقها على الانتماءات الوشائجية[8]
  • يحتلّ المجتمع المدنيّ مكان الوسط بين ثالوث (الفرد والجماعة والدولة)، وهذا يعني أنّه لا يقوم بذاته، بل على العكس تماماً؛ فهو يعتمد على هذه الأشكال الثلاثة من الروابط ويتغذى منها بقدر ما يستقل عنها أو يتواجه معها. وبالتالي ليس له أن يدّعي الحلول محلّها أو إلغائها. وبهذا المعنى فإنّ المجتمع المدنيّ يعمل على تشكيل قيمٍ وقوى ومؤسساتٍ وحركاتٍ تحُول دون سيطرة أحد عناصره (أي السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي) عليه، بحيث يكون دومًا أقوى من أيّة سلطة فيه[9].
  • المجتمع المدنيّ يشكّل أداةَ إصلاحٍ سياسيّ بدائليّ مضّادٍ للشموليّة، ورديفٍ للمجتمعات المحليّة، فهو من دون دوره السياسيّ وخارج سياق المعركة من أجل الديموقراطية، هو عملية إجهاض للمعنى الذي وجد من أجله تاريخيًّا، وإجهاض لطاقته النقديّة، فضلًا عن نزع قدرته التفسيريّة على فهم البنى الاجتماعيّة والسياسيّة.[10]
  • وفي الوقت عينه أهمية المجتمع المدنيّ “لا يمكن اختزالها في الحياة السياسيّة، ولكنّه غنيّ بجميع الأنشطة الاقتصاديّة والدينيّة والثقافيّة.[11]


[1] الهيمنة هي سيطرةُ الطبقةِ الحاكمةِ على المجتمع، وصناعة الأيديولوجيّة السائدة التي تعتبر صالحةً لكل مكان وزمان، وتبرر الوضع الراهن الاجتماعيّ، السياسيّ والاقتصاديّ كأنّه الوضع الطبيعيّ والحتمي.

[2] ميز ماركس بين بنيتين في المجتمع: الأوّلى تحتيّة: تضمّ قوى وعلاقات الإنتاج، تقسيم العمل، وعلاقات الملكية التي يدخلها الناس لإنتاج ضروريات الحياة وكمالياتها. والثانية هي البنية الفوقيّة فهي تشتمل على الثقافة، بنى السلطة السياسيّة، الأدوار الاجتماعيّة، الطقوس، الدولة والمؤسسات. وبحسب ماركس تحدد البنية التحتيّة البنية الفوقيّة، لكن علاقتها ليست سببيّة تمامًا، لأن البنية الفوقيّة غالبًا ما تؤثر على البنية التحتيّة، إلّا أن تأثير البنية التحتيّة هو الأهم. 
قدّم ماركس (1818-1883) تعريفه للمجتمع المدنيّ على أنّه “حلبة التنافس الواسعة للمصالح الاقتصاديّة البرجوازيّة، فالمجتمع المدنيّ عنده هو المجتمع البرجوازي، انه فضاء الصراع الطبقيّ، وهو بالتالي الجذر الذي تمخضت عنه الدولة ومؤسساتها المختلفة.  

[3] الأيديولوجيا تعني العقلية أو المعتقد، وبالفكر الماركسيّ تحمل الايديولوجيا معنى سلبيًّا بمعنى اللامفكَر فيه أو نظام المعتقدات القادم إلينا من الموروث والمجتمع ونقبله دون أن نخضعه للمحاكمة العقلية. 

[4] أماني قنديل. (2008). الموسوعة العربية للمجتمع المدني. ص49.

[5]   جلبير أشقر. (2016). انتكاسة الانتفاضة العربيةأعراض مرضية. بيروت: دار الساقي.

[6] – لويس بيير ألتوسير: فيلسوف فرنسي ولد في الجزائر (1918-1990) ويعد من أهم منظري الماركسية في القرن العشرين. 

[7]  عزمي بشارة.  (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص8 

[8]  عزمي بشارة (2011) محاضرة عن المجتمع المدني في الوطن العربي.
يقصد بالانتماءات الوشائجية: يقصد بها هي الانتماءات ما دون وطنية، أي الانتماء للعشيرة، القبيلة، الدين، الطائفة، القومية. 

[9] علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي، ص 134.

[10] عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، 2012، صفحة 9.

[11]  زهير الخويلدي (2020) دولة القانون والمجتمع المدني بين هيجل وماركس.

ثالثًا: السمات الضرورية لمؤسسات المجتمع المدنيّ

تتميز منظمات المجتمع المدني عن غيرها من مؤسسات الاعمال الاخرى وفقاً لجملة من العناصر يشكل وجودها ركائز أساسية لتصنيفها ضمن حيز المجتمع المدني، وغياب أي واحدة منها ينبأ بوجود خلل سوف يؤثر حتماً على دورها ونشاطها بشكل أو بأخر، وقد يستبعدها من حيز القطاع المدني غير الحكوميّ، تتلخص هذه السمات بالآتي:

  • أن تكون غير حكوميّة، بمعنى لا صلة لها بالمؤسسات الحكوميّة، باستثناء حصولها على ترخيص منها. واكتسابها الشخصية القانونية، الذي يساعد المنظمة المدنيّة على الدخول في عقودٍ وإيجارات وغير ذلك من المعاملات القانونيّة، وبذلك هي تعد مسؤولة قانونيا عن التزاماتها التي تدخلها.[1] مع الإشارة إلى أن اكتسابُ الوضعية القانونيّة يجب ألّا يكون شرطًا مسبقًا لممارسة حقّ التعبير والتجمع السلميّ. 
  • أن تكون ذات هيكل رسميّ مؤسسيّ، وتتسم أنشطتها بالاستمرارية إلى حدٍّ كبير، وهذا يخرج الحراكات المدنيّة المطلبيّة، أو الأنشطة المؤقتة لأي تجمع مدني من ضمن دائرة المؤسسات المدنية، ولكن بالتأكيد لا يستبعدها من نطاق المجتمع المدنيّ بمفهومه الأوسع. وهنا لابد من الإشارة إلى أن حقيقة إمكانية تشكيل منظمة مدنية بوصفها كياناً قانونياً، لا يعني أن المطلوب من المواطنين تشكيل كيانات قانونية حتى يتمكنوا من ممارسة حريات التعبير والاجتماع والتجمع السلمي. بل على العكس من ذلك، إن معظم المنظمات المدنية هي في الحقيقة كيانات غير رسمية.[2] وأحيانا يشكل الترخيص القانوني عبء على ممارسة النشاط المدني في بعض الأماكن والأنظمة.
  • أن تكون غير ربحية، ولا تهدف للربح، وفي حال مارست المنظمات المدنيّة أنشطة اقتصاديّة أدرّت عليها أرباحًا، فهذه الأرباح تدخل ضمن مصادر التمويل الرئيسيّة للمنظمة وأنشطتها، ولا يتمّ توزيعها على العاملين أو الأعضاء داخل المنظمة. فعلى سبيل المثال؛ بعض المنظمات تقوم بتأجير قاعاتها لمؤسساتٍ أخرى، أو بتمويل\تشغيل مشروع اقتصاديّ كفرن آلي، أو مشروع زراعي، كلّ الإيرادات الواردة من هذه المشاريع تدخل في ميزانية المنظمةِ نفسها وفي خدمة أنشطة أخرى تمارسها المنظمة.
  • ألّا تتبع لأحزاب سياسيّة أو أن يكون لها تحالفات معها، وهنا يجب التمييز بين دور المنظمات السياساتي الذي يمارس السياسة في إطار حماية حقوق وحريات الأفراد، وبين العمل السياسي الحزبيّ الذي يمارس السياسة بهدف وصوله إلى السلطة.
  • غير دينيّة: بمعنى ألّا تأخذ دور التبشير لدينٍ ما، لأنّ الهدف الأساسي للمجتمع المدنيّ هو خدمة المجتمع بغض النظر عن الانتماءات الطبيعيّةِ المولودة للأفراد، فالأساس هو التعامل مع الأفراد على أساس مواطنيتهم وليس دينهم أو مذهبهم أو قوميتهم. 

    وفي هذا السياق تُناقش مسألة غاية في الأهمية، وهي المؤسسات التي تؤسسها عوائل أو عشائر أو أيّ بنًى تقليدية أخرى، وتدعمها لخدمةِ قضيةٍ محدّدةٍ في المجتمع، مثلًا جمعيّةٍ دينيّةٍ تدعم مرضى السرطان، أو منظمةٍ عائليّة تدعم مرضى التوحّد، في أيّ حيّزٍ يمكن تصنيف هذا النوع من المنظمات؟ هل تصنّف من ضمن المجتمع المدنيّ، أم يختلف تصنيفها؟ يمكن القول هذا النوع من المؤسسات يدخل ضمن المجتمع الأهليّ، أو أقرب إليه في حال كانت هذه الجمعيات تتوجه بخدماتها نحو المجتمع ككلّ بغضّ النظر عن الانتماء الطبيعيّ للفرد. وفي مثل هذا النوع من المؤسسات يكون العمل مفرّغًا من مضمونه السياسيّ التغييريّ، ويقتصر على تقديم الخدمات للفئة التي يعمل عليها؛ من غير التطلّع لأيّ تغيير بالبنية السياسيّة أو بالأنظمة والقوانين الناظمة لنفس القضيّة التي يعمل عليها على اقل تقدير، ولعلّ هذا النمط من الجمعيات أو المنظمات هو ما كان يتمّ الترويج له، ودعم وجوده من قبل الأنظمة السلطويّة، أي جمعياتٌ ومنظماتٌ مفرّغةٌ من مضمونها السياسيّ والنقديّ، وهو ما يمس جوهر الدور الذي يجب ان يضطلع به المجتمع المدني في أي مجتمع.

[1]  يون إي. آيريش، روبرت كوشين، كارلا دبليو. سايمون. (1997). دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني. تم الاسترداد من دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني، ص 26.

[2]  المرجع السابق.

خامسًا: الحركة النسوية كنموذج للنضال المدني عبر التاريخ

تتنوع الأمثلة عن تراكم التجارب النضالية للمجتمع المدني على المستوى المحلي، وتجاوزها لتصبح قضايا نضال على المستوى العالمي، ليكون المجتمع المدني الحديث ما يشبه منصة عالمية تشاركية عابرة للأزمنة والأماكن، يتم من خلالها خلق القيم الإنسانية العالمية وتعميمها في المجتمعات الإنسانية. 

أبرز وأوضح نضال يمكن ذكره والتطرق إليه في هذا السياق؛ هو نضال الحركة النسوية. حيث أدى عدم الاعتراف بحقوق النساء عقب الثورة الفرنسية، إلى خلق مسار نضالي هادف لتحصيل حقوق المواطنة الكاملة للنساء والتي تمتع بها الرجال دونا عنهن. كان أول تجلياتها في الإعلان الذي صاغته الكاتبة المسرحية والناشطة الفرنسية (أوليمب دي غوج) تحت عنوان إعلان حقوق المرأة والمواطن في أوائل عام 1791، والذي جاء معترضا ومحاكياً لاعلان حقوق الانسان المواطن، وتم صياغة مادته الاولى “تولد المرأة حرة وتظل متساوية مع الرجل في الحقوق. ولا يجوز أن تقوم الفروق الاجتماعية إلا على المنفعة العامة[1]. ولعل هذه الاعلان كان من ضمن ارهاصات ما تم تسميته لاحقا الموجة الاولى للنسوية، التي عقدت أول مؤتمر لها في نيويورك عام 1848، وكان هنالك سعي للاعتراف بحق المرأة بالتصويت والانتخاب، الأمر الذي أدى إلى تتابع الاعتراف بالحقوق السياسية للمرأة في الدول تدريجياً. أما في الموجة النسوية الثانية مع مطلع الستينات، فقد تركز النضال على المساواة ومناهضة التمييز وتحرير المرأة من التنميط في أدوار هامشية. وفي مطلع التسعينات بدأت الموجة النسوية الثالثة لكن هذه المرة في إطار الاعتراف بحقوق المرأة دون أي نوع من أنواع التمييز سواءا كان على لون البشرة أو العرق أو الدين أو الطبقة الاجتماعية.


بفعل هذا الضغط والنضال المستمر والمتواصل تحولت المطالبات النسوية إلى جملة من القوانين والمبادئ على المستويين الوطني والعالمي، والتي أصبحت فيما بعد أهم مقاييس تحضر وتقدم الدول، خاصة بعد تبنيه من قبل الأمم المتحدة وتحويله لمسار عمل متكامل، حيث جاء في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة في المقاصد: “تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء”. وفي العام الأول للأمم المتحدة، أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجنة وضع المرأة، بصفتها الهيئة العالمية الرئيسية لصنع السياسات المتعلقة حصرا بتحقيق المساواة بين الجنسين والنهوض بالمرأة. وكان ومن أوائل أنجازاتها هو ضمان لغة محايدة بين الجنسين في مشروع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وعندما بدأت الحركة النسائية الدولية تكتسب زخما خلال السبعينات، أعلنت الجمعية العامة عام (1975) السنة الدولية للمرأة، ونظمت المؤتمر العالمي الأول المعني بالمرأة، الذي عقد في المكسيك. وفي وقت لاحق، أعلنت السنوات (1976-1985) بوصفها عقد الأمم المتحدة للمرأة، وأنشأت صندوق التبرعات للعقد.

في عام 1979، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي غالبا ما توصف بأنها الشرعة الدولية لحقوق المرأة. وتحدد الاتفاقية، في موادها الثلاثين، صراحة التمييز ضد المرأة وتضع برنامجا للعمل الوطني لإنهاء هذا التمييز. وتستهدف الاتفاقية الثقافة والتقاليد بوصفها قوى مؤثرة في تشكيل الأدوار بين الجنسين والعلاقات الأسرية، وهي أول معاهدة لحقوق الانسان التي تؤكد على الحقوق الإنجابية للمرأة. 

وبعد خمس سنوات من مؤتمر المكسيك، تم عقد المؤتمر العالمي الثاني المعني بالمرأة في كوبنهاغن في عام 1980. ودعا برنامج العمل الذي خرج به المؤتمر إلى اتخاذ تدابير وطنية أقوى لضمان ملكية المرأة على ممتلكاتها وسيطرتها عليه، فضلا عن إدخال تحسينات في مجال حقوق المرأة فيما يتعلق بالميراث وحضانة الأطفال وفقدان الجنسية.[2]

وفي عام 2000 تم اعتماد القرار 1325 حول المرأة والسلام والأمن بالإجماع من قبل مجلس الامن وتعد هذه المرة الأولى التي يقوم فيها مجلس الأمن بمواجهة التأثير غير المتناسب والفريد من نوعه للنزاعات المسلحة على المرأة، وكذلك اﻻعتراف بمدى تجاهل مساهمات المرأة في حل النزاعات وبناء السلام. حيث شدد القرار على أهمية مشاركة المرأة على قدم المساواة وبشكل كامل كعنصر فاعل في إحلال السلام والأمن. ويعد القرار 1325 هو قرار ملزم للأمم المتحدة وجميع الدول الأعضاء فيها، كما يشجع الدول الأعضاء على إعداد خطة عمل وطنية (NAP) خاصة بها لتفعيله على المستوى الوطنى.، ولعل أهم النقاط الرئيسية التي تمت صياغة القرار على أساسها هي (المشاركة، الحماية، والوقاية) للمرأة في النزاعات المسلحة.


يوضح العرض السابق واحد من الأمثلة العملية لنضالات المجتمع المدني، ويُبرز واحدة من أهم الأدوار المنوط به القيام بها في المجتمع، وهو النضال لأجل الحقوق والمطالبة بالمساوة، كما أنه يوضح أن النضال من اجل الحقوق هي قضية عالمية لا تقتصر على مجتمع دون أخر. 


[1]  stringfixer (د.ت.) إعلان حقوق المرأة والمواطنه.

[2] الامم المتحدة (د.ت.) المساواة بين الجنسين.

رابعًا: الأركان المؤسسية لمنظمات المجتمع المدني

يتوجب أن تمتلك أي منظمة غير حكومية ثلاث أركان ضرورية في إطار عملها المؤسسي، تعد بمثابة المحركات الموجهة والضامنة لسير عمل المنظمة المدنية داخلياً وفق أهدافها المتفق عليها مسبقا، وضمن الحيز المدني الذي تشكل فيه حقوق وحريات الأفراد البوصلة فيه. وهذه الأجزاء هي:
هويّة المؤسسة التي تعد حجر الزاوية – حوكمة المؤسسة الضامن للشفافية والحكم الرشيد – الأقسام الإدارية وهي الجزء التنفيذيّ للأنشطة.


وسنفصل في كل ركن من هذه الأركان أدناه:

بناء هويّة المؤسسة:

وتعتبر بمثابة خارطة الطريق التي سوف تحدّد وتركّز أنشطة المنظمة ومساحات عملها وأنشطتها، وتساعدها على العمل بشكل ممنهج نحو التغيير الإيجابي الأمثل الذي وُجدت من أجله. عادةً يتمّ بناء هويّة المؤسسةِ وفق منهجيّةٍ محدّدةٍ يُطلق عليها مصطلح “الخطة الاستراتيجية” والتي هي عبارة عن خطوات محدّدة، يتمّ إنجازها وفق أدواتٍ معينة على عدّة مستويات، داخلي مع الفريق المؤسس والأعضاء، وخارجي مع الفئات المستهدفة والمجتمع.


أهمّ سمات الخطة الاستراتيجية:

  1. أن تكون متصلةً مع الواقع، وتحاكي القضايا المطروحة في المجتمع، وتُبنى هذه العناصر بالضرورة بالتشارك بين مجموع الأفراد المشتركين بالفكرة كمرحلةٍ أولى لخلقِ توافقٍ وتجانسٍ بالرؤية بين الأعضاء المؤسسين من جهة. وبينهم وبين المجتمع أو أصحاب المصلحة من جهةٍ أخرى، وهو ما يجعل المؤسسة تنتمي بشكل فعليّ إلى مجتمعها واحتياجاته وتغيراته. 
  2. أن تسير وفق منهجيّة محدّدة زمنيًّا، بالاعتماد على أدوات التخطيط الاستراتيجي[1] في جمع المعلومات وإدارة النقاش، وبناء التوافقات المُرضية لجميع الأعضاء. 
  3. أن تكون شاملةً، وطويلة الأمد ومستمرةً، يقوم بها الأعضاء القادة في المنظمة الممثلين بمجلس إدارة المنظمة، وتحدًد هذه العملية مساراتِ التغيير وطرق الوصول إلى الأهداف بعيدة المدى.
  4. أن تجيب بمكوناتها المختلفة على سبعةِ أسئلةٍ رئيسيّة تحتاج أيّ مؤسسةٍ أن تبني توافقًا حولها سواء داخل المؤسسة أو خارجها: (سبب وجود المؤسسة؟ لمن تتوجه المؤسسة؟ ماهي نقطة البداية عند إعداد الخطة؟ ما هو التطوّر المنشود من خلال تنفيذ الخطة؟ ما الذي ينبغي أن تفعله المؤسسة لتصل إلى هذا التطوّر؟ ما الذي تحتاجه المؤسسة للوصول إلى هذا التطوّر؟ كيف سنحدد مدى نجاح الخطة؟) بالإجابة على هذه الأسئلة تُبنى مكونات الهويّة لمؤسسات المجتمع المدنيّ المؤلفة من:
    • الرؤية (Vision) والتي هي الطموح البعيد الأمد أو التغيير الذي تبتغي المؤسسة تحقيقه في قضية ما. وتُشتقّ منها الرسالة (Mission) والتي هي: وثيقة مكتوبة تمثّل دستور المؤسسة، والمرشد الرئيسي لكافة القرارات والجهود التي تنفذها، وهي بيان مكتوب يوضح اتجاه المؤسسة، وغرض وجودها، والمشكلة التي تسعى إلى حلها، وأيضا المساحة الجغرافية لعملها، والوظائف التي تؤديها. 
    • وتتبع ذلك تحديد القيم الأساسيّة (Value) التي تعمل عليها وبها المؤسسة، والتي يجب أن تكون على اتصال مباشر بمجالِ أنشطة المؤسسة. ومن ثم صياغة الهدف الاستراتيجيّ أو الهدف العام، وهو بعيد المدى ويتمّ اشتقاقه من الرؤية، وتتمّ صياغته على شكل فعل تسعى المؤسسة لتحقيقه.[2]  
    • وأخيراً نظريّة التغيير (Change of theory): هي الأفكار والفرضيات حول كيفيّة إحداث التغيير. وهي ترتكز على المعتقدات الشخصية والفرضيات والحدود الضروريةِ والتصوّر الشخصيّ للواقع. بمعنى آخر إنّها تشكّل إطارًا توجيهيًّا لجميع مراحل التفكير والعمل وإضفاء المعاني على التجارب عندما نتدخّل عن عمدٍ في مسارات تغيير اجتماعيّ ما.[3] فعلى سبيل المثال نفترض وجود منظمة نسويّة تعمل على تمكين النساء، بعد تحليلها للواقع وللقضية التي تسعى لتحقيقها وخارطة المعيقات والمؤثرين الفاعلين، توصّلّت إلى أنّ السبب الرئيس في عدم المساواة الجندريّة في المجتمع، هو ضعف المشاركة الاقتصاديّة للنساء، لذلك بَنَتْ نظريتها في التغيير على “أنّ التمكين الاقتصاديّ وما يتعلق به من تأهيلٍ وتدريبٍ وتعليمٍ وتوفيرِ فرصِ العمل، كلّها عوامل أساسيّة وتراكميّة في تحصيل المساواة الجندريّة، الذي يقود إلى تخفيف العنف في المجتمع” لتصبح هذه النظريّة في التغيير بمثابة موجّهٍ لجميع البرامج والمشاريع والتدخلات التي سوف تعمل بها المنظمة في المستقبل.[4]

يوضّح الشكلُ أدناه[5] مثالًا على كيف تكون نظريّة التغيير حاضرةٌ في كلّ تفاصيلِ المشروع في عمل المنظمات من البداية وحتى النهاية، حيث كلّ نشاط يفترض أن يصب في مُخرجٍ محدد، وهذا المُخرج يصبّ في التغيير المنشود. ونظريّة التغيير أيضا تكون حاضرةً في الاستراتيجيات الواجب العمل بها بشكلٍ مسبق، حيثما تفترض المنظمة أنّ اتباع استراتيجيّةٍ محددةٍ سوف يؤدي إلى نتيجةٍ تصب بالهدف الموضوع.


تكمن خطورة عدم وجود هويّة للمؤسسة، في تحوّل المنظمات غير الحكوميّة من قطاعٍ يسعى للصالح العام؛ إلى مجرّد منفذٍ لأنشطةِ وخططِ المنظمات المانحة أو الدوليّة، أو أدواتٍ بيدِ السلطة. وهذا يفرّغهُ من سبب وجوهر وجوده الأوّل، وهو السّعي للصالح العام بما يصون حقوق الأفراد ويحفظ حرياتهم. وهذا ينطوي على مخاطر في إطار تحويله لمجرّد كيانٍ يسعى لالتقاط فرص التمويلِ بغضّ النظرِ عن مدى توافقها مع رؤيته وتوجهاته، أو مجال عمله وخبرته في المجتمع؛ الأمر الذي يؤدي إلى تعارضٍ قيميٍّ، وهدرِ الكثير من الموارد لنقص الخبرة، فضلًا عن إضعاف قدرته النقدية المطلوب حضورها الدائم والمستمر. 


مثال عملي توضيحي عن هويّة منظمة Hivos الدوليّة :

الرؤية:

تؤمن Hivos إيمانًا راسخًا بحقّ كلّ شخص في العيش بحريّة وكرامة، والتمتّع بفرصٍ متساوية، والتأثير على القرارات المتخذة بشأن التغييرات التي يريدون رؤيتها في حياتهم ومجتمعاتهم وبلدهم.
نتصور عالمًا تُحترم فيه الاختلافات الفرديّة والخلفيات وتُستخدم لتقوية المجتمعات. عالم يتحدّ فيه الناس لتحدي اختلالات موازين القوى التي تسمح بالتدهور البيئيّ وتؤدي إلى تغيّرِ المناخ؛ والتي تتغاضى عن الاستغلال والقمع والإقصاء؛ والتي تديم عدم المساواة بين الجنسين.

الرسالة:

تعمل Hivos من أجل عالمٍ يمكن للناس فيه تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وإطلاق العنان لإبداعهم لبناء مجتمعات عادلة ومستدامة للحياة لأنفسهم وللأجيال القادمة. مهمتنا هي تضخيم وربط الأصوات التي تعزز العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة وتتحدى اختلالات القوة. نقوم بتمكين أصحاب الحقوق المهمشين بشكلٍ خاص لرفع صوتهم والمطالبة بحريّة الاختيار.
تدعم Hivos تطوير حلولٍ بديلةٍ للمشاكل العميقة الجذور بحيث يمكن للأفراد والمجتمعات اتخاذ خيارات مسؤولة وعادلة ضمن الأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة التي تخدمُ احتياجاتهم وتحافظ على الكوكب. نحن نربط الأشخاص والمنظمات التي تقدّم بدائلَ لأولئك الذين يبحثون عن حلول في كفاحهم من أجل العدالة الاجتماعيّة والبيئيّة.

القيم الجوهرية:

نحن نؤمن بأنّ الحياة البشريّة بأشكالها المتعددة ذات قيمة؛ أن جميع الناس يستحقون تحقيق إمكاناتهم الكاملة، مع تحمل مسؤولية الحفاظ على بيئتنا الطبيعية. يؤدي العيش في حريّة وكرامة، مع احترام بعضنا البعض وكوكب الأرض، إلى زيادة رفاهية الفرد ومجتمعات عادلةٍ وحيويّةٍ. قيمنا (الحرية والكرامة، المواطنة المسؤولة، تقرير المصير والتنوّع، المساواة والعدالة، الاستخدام المستدام لموارد كوكبنا).

نظرية التغيير:

تسعى منظمة هيفوس لتحقيق تغيّرٍ هيكليّ ومنهجيّ يمكّن جميع المواطنين -الرجال والنساء على حدٍّ سواء- من المشاركة على نحو فعّال ومتساوٍ في مسارات صنع القرارات التي تحدّد حيواتهم وشكل مجتمعاتهم ومستقبلهم. بناء على ذلك، تنخرط هيفوس وكادر عملها والمنظمات الشريكة في مسارات تغيير مركّبة وشائكة.
يتولّد التغير نتيجة عمليات تجاذب متبادلة ومتزامنة من قبل قوًى اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة متعددةٍ تضمّ الكثير من الأفراد والكيانات. مسارات التغيّر الاجتماعي مركّبة وشائكة وتتميز بحلقات تغذيّة راجعة غير أفقية: أفعالنا الذاتية تتفاعل مع أفعال الأخرين ومع عوامل تأثير لا تعدّ ولا تحصى. هذا الأمر يولّد تفاعلاتٍ لا يمكن توقّعها واستشرافها، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بمحصلات التدخلات التي تسعى للتغّير.


[1] – يمكن الرجوع إلى كتيب التخطيط الاستراتيجي لمنظمات المجتمع المدنيّ، لمزيد من التفاصيل والأمثلة عن كيفية بناء خطة استراتيجية لمنظمات المجتمع المدني. 

[2]  فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية. بيروت: فريريش إيبرت، ص16

[3]  ماريان فان إس. (بلا تاريخ). الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير، ص12

[4] – يمكن الاطلاع أكثر على كيفية بناء نظرية التغيير من خلال دليل منظمة هيفوس لنظرية التغيير (الممارسات العملية لفكر نظرية التغير) في الرابط التالي: https://resources.peopleinneed.net/documents/637-toc-arabic-hivos.pdf

[5] – الشكل مأخوذ من كتاب الممارسات العملية لفكر نظرية التغيير. ماريان فان إس. (بلا تاريخ). ص37.

الحوكمة أو الحكم الرشيد:

استُخِدمَ مفهوم الحوكمة أو الحكم الرشيد لأوّل مرّة في عام 1989 في أدبيات البنك الدوليّ عندما تحدّث عن الأزمة في الدول الإفريقية وجنوب الصحراء بأنها “أزمة حكم”، حيث أرجع الخبراء السبب في عدم نجاح سياسات الإصلاح الاقتصاديّ والتكيّف الهيكلي بهذه الدول إلى الفشل في تنفيذ السياسات، وليس إلى السياسات نفسها. 

ويُقصد بالحكم الرشيد بحسب مفوضية حقوق الإنسانكلّ عمليات الحكم والمؤسسات والعمليات والممارسات التي يتمّ من خلالها اتخاذ القرارات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك وتنظيمها، ويضيف الحكم الرشيد صفةً معياريّةً وتقييميّةً لعملية الحكم[1]. مع الوقت تطوّر المفهوم، وأصبح لا ينطوي فقط على أبعاد مؤسسيّة تنظيميّة، وإنّما تعدّاه إلى أبعادٍ قانونيّةٍ وأخلاقيّة أضافتها الأمم المتحدة، وتُوجَزُ بالتالي: (المشاركة، حكم القانون، الشّفافيّة، حسن الاستجابة، بناء التوافق، المُساواة خاصة في تكافؤ الفرص، الكفاءة والفاعليّة، المُحاسبة والمُساءلة، الرؤية الاستراتيجيّة).


هنالك ارتباط وثيق بين المجتمع المدنيّ والحكم الرشيد، بل إنّ الحكم الرشيد يصبّ في جوهرِ وجود المجتمع المدنيّ منذ بداية تشكّله، حيث إنّ السعي لتحقيق حكمٍ عادلٍ وشفافٍ وتشاركيٍّ هي من أهمّ المسائل التي يسعى إليها المجتمع المدنيّ. ولهذه العلاقة جانبان بما يتعلق بالمنظمات المدنيّة؛ 

  • الجانب الأوّل: الحوكمة داخل المنظمات نفسها، وهنا يعرّف الحكم الرشيد بأنّه “مجموعـةٌ مـن القواعـد والقوانيـن والمعاييـر التـي تجـري بموجبهـا إدارة المنظمـات والرقابة، ويقـع علـى عاتقهـا مسـؤوليّة تنظيـم العلاقـة بيـن جميـع الأطراف فـي المؤسسـة وأصحـاب المصالـح وتُسـاعد القائميـن على تحديـد توجـهٍ وأداء المنظمـة ويمكـن مـن خلالها حمايـة المصالـح.[2] ووجود مستوى عالي للحوكمة داخل أي مؤسسة مدنية يسهم في ضمان استمرارية المؤسسة، وتقلل الأزمات المالية والإدارية، وتخفف من الترهّل الإداري، وتكافح عدم الكفاءة في العمل لدى العاملين. إلى جانب ذلك فهي تمنعُ استغلال بعض أعضاء مجلس إدارة المنظمة للسلطات المتاحة لهم في تحقيق مكاسبَ غير مشروعة أو تبديد أموالها. وتؤدّي إلى وجود عدالة وشفافيّة ومعاملة نزيهة لجميع الأطراف ذوي العلاقة بالمنظمة. [3]
  • الجانب الثاني هو النضال والسعيّ باتجاه مجتمع محوكمٍ بكليته، سواء على مستوى المؤسسات الحكومية، أو القطاع الخاص، أو القطاعات الأخرى في المجتمع. والذي يعني ببساطة أن يعمل المجتمع المدني على رصد ومراقبة الطريقة التي يتمّ من خلالها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبشرية للدولة. ومقاومة أشكال الفساد الإداري والمالي.

مبادئ تطبيق الحوكمة الرئيسية داخل المنظمات: 

حجر الزاوية في الحوكمة هو وجود نظامٍ داخليّ، وسياساتٍ وإجراءاتٍ معتمدة ومصادق عليها ومعمولٍ بها. يشتمل النظام الداخليّ على: اسم المنظمة، مجال عملها، الهدف\الغرض الذي أُنشأت من أجله، أسماء وعناوين المؤسسين، عنوان المكتب المسجل، واسم الوكيل المسجل للمنظمة، كما يوضح بنيتها الحاكمة الأساسية كالجمعية العامة، مجلس الإدارة، ويُبين التفاصيل المتعلّقة بتكويّنها وصلاحيات كلّ بنية حاكمة فيها، وسنستعرض بشكلٍ مركّزٍ وموجز كل هيئة حاكمة في المنظمة، دورها والصلاحيات التي تتمتع بها: 

  1. الهيئة العامة (الجمعية العامة): هي أعلى هيئة لصنع القرار في المنظمة، فهي التي تنتخب أعضاء مجلس الإدارة وتعزلهم، كما تقرّر المسائل المصيريّة للجمعية، والتي لا يمتلك مجلس الإدارة التقرير في شأنها. يتمّ دعوة الجمعية العامة للانعقاد مرّةً واحدةً على الأقل في السنة، وغالبًا ما تناقش في اجتماعها السنوي الاعتيادي: (الميزانية والحساب الختاميّ، تقرير مجلس الإدارة عن أعمال السنة، تقرير مراقب الحسابات، انتخاب أعضاء مجلس الإدارة بدلًا عن الذين زالت أو انتهت عضويتهم). ويجوزُ دعوة الجمعية العامة لاجتماعٍ غير عادي لأسباب منها: النظر في تعديل النظام الأساسي للجمعية أو حلّها او اندماجها مع غيرها، عزل كلّ أو بعض أعضاء مجلس الإدارة، وغير ذلك من المسائل الأساسيّة التي تختصُّ بها الجمعية العامة[4]
  2. أمّا مجلس الإدارة (الهيئة الإداريّة): فهي الهيئة الحاكمة الرئيسية للمنظمات غير الحكوميّة (غالبًا يكون وجودها شرطًا رئيسيًّ لترخيص المنظمة وفقَ القانون العام)، ويضطلع مجلس الإدارة بمهام صياغة رسالة المنظمة وتحديد أغراضها وبلورة رؤية واضحة، اختيار المدير التنفيذي ودعمه وتقييم أداءه، التخطيط الاستراتيجي وتدبير التمويل اللازم لعمل المنظمة وضمان كفايته[5]. إلى جانب الدور الرقابيّ المستمر. فمجلس الإدارة بمعنًى أخر هو مجلسٌ ذو سلطةٍ كاملةٍ لاتخاذِ القراراتِ فيما يتعلق بتنفيذ الأهداف والسياسات التي تقررها الهيئة العامة ويقوم بوظيفةِ الرقابةِ ويساعد في الحصول على تمويلات الأنشطة. 
    يعتمد عدد أعضاء مجلس الإدارة على حجم المنظمة، وغالبًا ما يكون عددهم فردي من (5 إلى 7 أعضاء) كمعدّل وسطيّ، والعدد الفردي يكون لأغراض حُسْنِ عمل نظام الضوابط والتوازنات في حال لم يتم التوافق وتم اللجوء إلى التصويت بنظام النصف +١ أو بنظام الثلثين. عمومًا يتعين على الهيئات العامة للمنظمات اختيار حجم الهيئة الإدارية الذي سيمكّنهم من: عقد مناقشات بنّاءة ومثمرة واتخاذ قرارات سريعة ومنطقية، وتنظيم عمل لجانها بكفاءة. ولضمان فاعلية أكبر للمجلس من المهم أنّ يتمتع أعضاءه بخبرةٍ في مجالات (التنميّة والمجتمع المدنيّ، خبرةٍ قانونيّةٍ، تمثيلٍ لأصحابِ الشأن والمصلحة، تنوّع جنسيّ وعمريّ، إلى جانب سماتٍ أساسيّة كالنزاهة والصدق)[6].
  3. الفريق الإداريّ التنفيذيّ: وهم فريق الموظفين والمتطوعين المنفذين الذين يقومون بأداء عملهم بشكلٍ يوميّ، ويَنْصَبُّ اهتمامهم الأساسي على الكيفيّة التي يجب أنّ يتم بها استخدام الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف والنتائج المرجوة، كما يتولون مسؤولية تحويل وترجمة السياسياتِ والتوجهاتِ العامة للجمعيةِ إلى أنشطةٍ ومشروعات. في غالب الأحيان يقوم مجلس الإدارة بندب مدير تنفيذيّ لإدارة الفريق الإداريّ، وتنفيذ سياسات الأنشطة، ويكون المدير التنفيذيّ بدوره مسؤولًا أمام مجلس الإدارة، إذ يتولى إرشاد مجلس الإدارة وتوجيهه للخيارات المختلفة، حيث يختصّ بترجمةِ رسالةِ المنظمةِ وتجسيد رؤيتها، وتوفير مصادر التمويل، وإدارة وتخصيص موارد المنظمةِ والاشراف على شؤونها المالية، وإدارة شؤون العاملين، والاشراف على تقديم البرامج والخدمات، والإفصاح عن المنظمة والتعامل مع البيئة الخارجيّة[7].

من ناحية المبدأ الرئيسي؛ تستند الحوكمة الداخلية في المنظمات المدنيّة إلى مبدأ “فصل الحوكمة عن الإدارة“. بمعنى ألا تتدخّل الهيئة العامة ومجلس الإدارة بالإدارة التنفيذيّة اليوميّة، وتكتفي بدور الموجه والرقيب لعمل المنظمة ككل، حيث يشكل هذا الفصل بين المستويين تنشيطَ وتفعيل العمل المدنيّ. كما أنه يضمن تشغيل المنظمة بشكلٍ فعال، مع مراعاة المصلحة العامة. أمّا التداخل الحاصل في المنظمات المدنيّة بين مجالس الإدارة، ومهام الإدارة التنفيذيّة سيؤدّي إلى إضعاف الإدارة، وإشغال مجالس الإدارة عن دورها الحقيقيّ كوجه للإيقاع العام لعمل المنظمة نحو الهدف والتغيير المرجو[8]. إلى جانب الاحتمالية متوقعة الحصول لتضاربِ المصالح نتيجة لهذا الخلط بين الوظائف الرقابیّة والتنفیذیّة.[9]


[1]  المفوضية السامية لحقوق الانسان. (n.d.). نبذة عن الحكم الرشيد.

[2] منظمة محامون بلا حدود. (2021). الحوكمـة الشـاملة فـي عمـل منظمـات المجتمـع المدنـي، ص 18.

[3]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص4

[4]  برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 7

[5]   المرجع السابق، ص 8.

[6] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 9-15

[7] برنامج دعم المجتمع المدني. (2012) الحكم الرشيد في منظمات المجتمع المدني-دليل المتدرب، ص 9.

[8] برنامج دعم المجتمع المدني، مرجع سبق ذكره، ص 11

[9] رانيا سكينه (2017). مادة تدريبية للحوكمة في منظمات منظمات المدنية، ص 11.

الأقسام الإدارية التنفيذية للمنظمات المدنيّة:

يتبع بناء الخطة الاستراتيجيّة التي سبق ذكرها، مرحلة التخطيط التنفيذيّ الذي يُبنى بالضرورة على الخط العام المعتمد للمؤسسة، ووفقا لقيمها ورؤيتها. ويعدّ التخطيط التنفيذيّ هو المرحلة التي تحول المؤسسة أفكارها ورؤاها وطموحاتها، إلى توجهاتٍ فعليّة وأهدافَ محددة وبرامج عمل. أي هو وضع الخطة الاستراتيجيّة في سياقِ برنامجٍ زمنيٍّ وماليٍّ وإداريٍّ. يمثّل الشكل أدناه دورة حياة العمل في المنظمة، والذي يوضّح الخطة التسلسليّة لحياة المنظمة إلى جانب التشابكات في كلّ منها[1]:


يمكن التمييز وفقا لدورة حياة المنظمة، بين خمس أقسام أساسيّة داخل المنظمة، والتي تزيد وتنقص باختلاف طبيعة وحجم أنشطة المنظمة. وجود هذه الأقسام مرتبطة بوجود مصدر تمويلي للمشاريع، وتعد مخرجات كل قسم من هذه الأقسام؛ متطلّبات أساسية للحصول على التمويل، ولإثبات الشفافيّة والنزاهة أمام المانح بالدرجة الأولى، وأمام الجهات الحكوميّة الرسميّة ذات الصلة، وأما أعضاء المنظمة نفسها والمجتمع المستهدف. وهذه الاقسام هي: (التمويل، البرامج، الإدارة المالية، المتابعة والتقييم، الموارد البشرية، المناصرة، الأبحاث). 

أولًا: قسم التمويل:

 يعد التمويل؛ عملية تبادلية بين مانح ومتمول يريدان كلاهما إحداث فرقٍ إيجابيّ في المجتمع المستهدف. بمعنى أنها عمليّة تشاركيّة وحاجة متبادلة لدى الجهتين، فكما أنّ طالب التمويل يسعى جاهدًا للحصول على جهةٍ مانحةٍ؛ فإنّ الجهات المانحة[2] تبذل جهدًا ليس بالقليل لتمويل مشاريعَ قادرةٍ على إحداث تغيير إيجابيّ. 

يضطلع قسم التمويل داخل المنظمة في إيجاد فرص تمويليّة لبرامج وأنشطة المنظمة، وكتابة مقترحات المشاريع. إذ تتمّ عملية البحث عن التمويل عادةً من خلال التعرّف على الجهات المانحة (أهدافها استراتيجياتها، نوعية المشاريع التي تموّلها الجهة التابعة لها، شروط التمويل، حجم المبالغ المقدّمة، تواريخ التقديم للتمويل). هذا بالنسبة لمصادر التمويل من منظمات كبيرة أو حكومات، والامر ينطبق على مصادر التمويل من القطاع الخاص، ومن الأفراد في المجتمع.
ويُعتبر طلب التمويل؛ عمليةً استثماريّة -بالمعنى الرمزيّ للكلمة- بمعنى أنها تتعدّى لحظيّة التمويل الحالية، إلى بناء علاقةٍ طويلةِ الأمد مع الممولين؛ الأمر الذي يحتاج جهدًا ووقتًا ليس بالقليل بحيث يكون الهدف في النهاية النجاح في بناء شبكةٍ من الممولين تتألف بمعظمها من ممولينَ دائمين يقدمون منحًا صغيرةً على أُسسٍ ثابتةٍ ومستمرةٍ.[3]

معايير التمويل: عمومًا لا توجد طريقةٌ ثابتةٌ أو وصفةٌ سحريّةٌ لإقناع المانحين بتمويل المشروع المقدّم. لكن ما يساعد على ذلك هو التركيز على كتابةِ المشروعِ بطريقةٍ منطقيّةٍ لتقديمهِ بطريقةٍ مناسبة وإبداءِ قدرٍ من المرونة والابداع، إلى جانب مجموعةٍ من المحدداتِ والمعايير التي ينظرُ إليها المانح أثناء تقييمه للمنظماتِ التي يفكّرُ بتمويلها: 

  1. معايير إداريّة: مثل وجود وضعٍ قانونيٍّ للمنظمة[4]، امتلاكها لنظام داخليّ وسياسات وإجراءاتٍ وفقَ معايير محددةٍ غالبًا ما تكون تضمن درجةً عاليةً من الحوكمةِ.
  2. معايير فنيّة: والتي تتضمن مجال عمل المنظمة وخبرتها، المشاريع والأنشطة السابقة، مستوى الوصول على المستوى البشريّ والجغرافيّ للمجتمع.
  3. معايير ماليّة: تتمثّل في وجود سياساتٍ ماليّةٍ معتمدةٍ، وأيضًا وجود تقييم ماليّ من جهة خارجيّة للإجراءات المالية في المنظمة خلال المشاريع السابقة وهذه غالبًا ما تكون في المنظماتِ الكبيرةِ التي لديها مشاريع. 
  4. معايير أخرى: حيث تنظر الكثير من المنظمات إلى التوجّه السياسيّ للمنظمة إلى أيّ حدٍّ يتوافق مع توجّهها، حيث يسهّل هذا الأمرُ على المنظمات المانحة بناءَ العلاقةِ في حال كانت المبادئ الأساسيّة متشابهةً. إلى جانب معايير متعلقةٍ بالمكان والقطاع حيث غالبًا ما تكون سياسات التمويل موجّهة لدعم قطاعٍ ومكانٍ محددين، على سبيل المثال تقوم جهةٌ مانحةٌ بتقديم منحٍ تمويليّةٍ لقطاعِ التعليم في شمال غرب سورية، في هذا الإطار سوف تمنع الجهة المانحة المنظمة المُمولة صرف أموال المنحة خارج القطاع والمكان الذين تمّ تحديدهما كشرطٍ مسبقٍ لتلقي المنحة الماليّة، وهنا يطرح التساؤل الهام في كيفية إدارة المنظماتِ لهذه التحديات والتوفيق بين رؤيتها في القطاع والمكان الذي تعمل بها، وبين قيود وأجندات المانح، في إطار حاجتها للتمويل.

وبالنسبة للتمويلات القادمة من القطاع الخاص أو الأفراد، يكون هنالك جهد مبذول في إطار تنظيم حملات مناصرة تخاطب الجمهور المستهدف وتقنعه حول القضية المراد تمويلها. 


ثانيًا: قسم البرامج والمشاريع:

 يعد المشروع سلسلة نشاطاتٍ تسعى لتحقيق أهدافٍ معينةٍ، يتمّ تنفيذها خلال فترةٍ زمنيةٍ محددةٍ وضمن إطار موازنة معتمدة. بينما البرنامج هو إطارٌ يضمُّ داخلهُ مجموعةَ مشاريعٍ تعمل جميعها لتحقيق الهدف الذي أُنشأ من أجله البرنامج، على سبيل المثال برنامج حماية النساء المعنّفات في منظمة ما، قد يضمُّ داخله: (مشروع الإيواء، ومشروع الحماية القانونيّة، ومشروع التعافيّ النفسيّ، ومشروع التمكين والتأهيل) جميع هذه المشاريع تصبُّ في البرنامج الأكبر وهو حماية النساء. 

يمرُّ المشروع بدورةِ حياةٍ مؤلفةٍ من أربعةِ مراحلَ وهي (التخطيط، التحليل، التنفيذ، المتابعة والتقييم). ويوضّح الشكل التشابكات التي تبدأ منذ اللحظة الأوّلى للفكرة، فمثلا نجد التخطيط يسبق مرحلة التحليل في البداية، ولاحقا يسبق التنفيذ بعد الانتهاء من مرحلة التحليل. [5]


ثالثًا: قسم المتابعة والتقييم:

 المتابعة هي عملية منظّمةٌ ومخطّطةٌ ومستمرةٌ، تتمّ بصفة دوريّة على مدار عمر المشروع لجمع المعلومات عن المشروع من ناحيةِ ما تمّ إنجازه، وهل تمّ إنجازه بالوقت المحدد، بالإضافة للتحديات التي يواجهها تنفيذ الأنشطة؛ والغرض من ذلك المساعدة في اتخاذ القرارات المناسبة من قِبل إدارة المشروع. أمّا التقييم: فهو عمليةُ قياسِ مدى نجاح مشروعٍ أو برنامجٍ في الوصول للأهداف المخطط لها مسبقًا.

وكلاهما -التقييم والمتابعة- يستند في عمله إلى مؤشرات كميّة ونوعيّة محددةٍ بشكلٍ مسبقٍ في مقترح المشروع المقدّم للمانحِ، وتَستخدمُ في سبيل تحقيق ذلك جملةً من أدواتِ التحقّقِ المختلفة. والتقاريرِ الصادرة عن قسم المتابعة والتقييم تُطلبُ من قِبلِ الجهة المموّلة التي تُتابع من جهتها -وعبر قسم المتابعة والتقييم لديها- سير المشروع الذي تمّ تقديم المنحة المالية له. 

ويجدر التنويه إلى أن المتابعة والتقييم هي عملية لا تقتصر على المشروعات الممولة، إنما هي عملية اكبر من ذلك بكثير، فهي تعد واحدة من الأدوات التي يتم اللجوء إليها لمعرفة إلى أي حد المنظمة تسير في إطار الرؤية والأهداف التي تتبناها. حيث يعد من أهم الأدوات التي يستخدمها مجلس الأدارة والهيئة العامة في تقييمهم السنوي للمنظمة ككل. 


رابعًا: القسم المالي:

يختصّ بإدارة الموارد المالية للمنظمة والهدف تحقيق الفاعلية العظمى لأهداف المنظمة. وعلى الرغم من أن هدف منظمات المجتمع المدنيّ غيرُ ربحيّ؛ إلّا أنّ هذا لا يعني أنْ تكون مبذّرة أو غير فعّالة أو ألّا تسعى لتحقيق هدفها بالجودة المطلوبةِ بأقلِ التكاليفِ الممكنةِ؛ هذا الموضوع مهمٌّ لسببين: الأول هو صعوبةُ الحصولِ على التمويل بفعلِ المنافسة المتزايدة، حيث يُمنح التمويل للمنظمات الكُفء التي تستطيعُ أن تخدم عددًا أكبرَ من المستفيدين بنفس الموارد. والسبب الثاني داخليٌّ يتعلق بالإدارة والرقابة الداخليّة للمنظمة للتأكّد من حسنِ استخدام وصرف التمويل من قبل فريق العمل حتى في حالِ غياب الرقابة الخارجيّة.[6]

أمّا التدقيق المالي: فهو إجراءُ مراجعةٍ مستقلةٍ للنظامِ المالي وللبيانات الماليّة للمنظمة من قبل مختصين ماليين. بعض الدول تطالب جميع المنظمات الربحيّة وغير الربحيّة بإجراءِ تدقيقٍ ماليٍّ سنويٍّ ضمن القوانين الناظمة، بينما يكون هذا الاجراءُ اختياريًّا في دول أخرى.[7]


أقسام أخرى:

يضافُ إلى الأقسامِ السّابقة، أقسامٌ متخصصةٌ تَتبَعُ لنوعِ أنشطةِ المنظمةِ، وكِبَرِ حجمها، والعمليات الداخليّة والخارجيّة التي تقوم بها، ومنها: 

  1. قسم الموارد البشريّة: وهو القسم المعني بإدارة شؤون الموظفين والمتطوعين إداريًّا، والمسؤول عن صقل خبراتهم ومهاراتهم. 
  2. قسم المناصرة والتواصل: ويعد قسمًا رئيسيًّا في معظمِ المنظماتِ، لدوره الهام في الحشد والتنظيم المجتمعي، للتأثير في السياسات أو تغييرها. 
  3. قسم العمليات والدّعم اللوجستيّ: يكون مهم في المنظماتِ التي لديها كمٌّ كبيرٌ من العمل مع شركاء من القطّاع الخاصِ والحكوميّ والمشترك، حيثما يتطلّب الأمر قسمً متخصّصًا لإصدارِ الأذونات والموافقات اللازمة، إلى جانب الحجوزات وتأمين الموارد اللازمة للأنشطة، وما إلى هنالك من الأمورِ اللوجستيّةِ. 
  4. قسم الأبحاث والدراسات: في المنظمات التي تُصدرُ باستمرارٍ أبحاثًا أو أوراقًا بحثيّةً أو أوراق سياساتيًّة، فهي تقوم بإنشاءِ وحدةٍ متخصصةٍ لإنجاز مثل هذه المنتجات. 

كخلاصة عامة للجزء المتعلق بالمنظمات يمكن تلخيص النقاط التالية: 

المنظمات المدنية هي الشكل المنظم من المجتمع المدني، الذي تم إيجاده لأغراض تنظيمة تساعد المنظمات في إدارة أصولها المالية بطريقة شفافة أمام الحكومات والمانحين والمجتمع ككل. 

في كثير من الأحيان يكون وجود ترخيص للمنظمة مقيد لها ومعيق لحريتها. وفي بعض الدول تكون فوائد عدم الترخيص تفوق بكثير وجود ترخيص قانوني، لذلك وجب على الأفراد الناشطين في المجال المدني تقييم خطوة حصولهم على ترخيص قانوني في إطار الفوائد والمثالب التي من الممكن ان يتعرضوا لها في إطار ناشطيتهم.

عموما يمكن القول إن وجود هذا الشكل المؤسسي للمنظمات المدني يستلزم جملة من العناصر الضرورية الواجب توافرها بها لتبقى المنظمة مصنفة ضمن الحيز المدني وعلى رأسها أن تكون غير تابعة للحكومة أو لطرف سياسي، وأن تكون غير ربحية ولا تهدف إلى الربح. 

ولضمان بقائها على السكة المدنية وفقاً للأهداف التي وضعتها لنفسها أثناء العمل وتنفيذ الأنشطة، في إطار الدور النقدي الملتزم بالدفاع عن الحقوق والحريات، يستلزم ذلك وجود ثلاثة أركان داخل المنظمة؛ (امتلاكها لهوية واضحة ومعلنة، مستوى عالي من الحوكمة الرشيدة، وجهاز تنفيذي). 


[1] فريريش إيبرت. (2014). التخطيط الاستراتيجي للمنظمات المدنية، ص 11.

[2] – لا تقتصر عملية تمويل المجتمع المدني على الهيئات والمنظمات الدولية، او حكومات الدول، وإنما تتعداها لتشمل الشركات والبنوك، وتبرعات الأفراد، ومصادر تمويلات من منظمات أخرى لها أهداف متقاطعة مع المنظمة المتمولة. 

[3] فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني، ص 21.

[4] – يختلف شرط وجود التسجيل القانوني للمنظمة بحسب المانح، هنالك بعض المانحين ممن يقدمون تمويلات صغيرة ومتوسطة للفرق والجمعيات والمنظمات لا يشترطون وجود هذا التسجيل، ولكن الأغلبية يشترطون وجود التسجيل القانوني وخاصة في حال وجود منح كبيرة مقدمة، وفي بعض الحالات تلجأ المنظمات الصغيرة التي لا ترغب بالتسجيل القانوني إلى منظمات حاضنة تكون مرخصة والاستفادة من ترخيصها في إدارة منحتها المالية بسلاسة وبدون عوائق وفق صيغة معينة مع المانح والحاضنة.  

[5] الشكل مأخوذ من كتيب التخطيط للمشاريع وكتابة المقترحات، فريدريك إيبرت، 2013.

[6]  فريرديش إيبرت. (2015). أساسيات الإدارة المالية لمنظمات المجتمع المدني. بيروت، ص 7

[7]  المرجع السابق، ص 23

سادسًا: قضايا إشكاليّة في المجتمع المدنيّ المعاصر

يمكن تلخيص اهم القضايا الإشكالية في المجتمع المدني في الدول النامية عموما، وفي سوريا على وجه خاص بعدة جوانب نذكر من أهمها: 

  1. المجتمع المدنيّ المفهوم والدور، والنخبة المدنيّة: 
    • ضبابية المفهوم والدور: بفعل الأدوار المتغيّرة التي يشغلها المجتمع المدنيّ، تبعًا للظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتبعًا لطبيعة المجتمع الذي يعمل به، جعل منه مفهوماً مثيرا للالتباس لأنه أصبح يعني كلّ الأشياء لكلّ الاشخاص، أيّ أنه أصبح إطارًا فضفاضًا يتسع للشيئ ونقيضه، إذ يُستعمل مرةً ضدّ المجتمع الأهليّ وأخرى معه، أو يستعمل مرّة ضدّ السلطة وأخرى معها. ولعل هذا التغير يعبّر فعليًا عن طبيعة وجوده أساسًا في المجتمعات؛ في إطار إحداث التوازن داخل المجتمع ضمن دوره الرئيسي في حماية حريّة وحقوق الفرد؛ بمعنى أننا نجده تارةً يميل إلى المجتمع الأهلي عندما تحاول الدولة ابتلاع المجتمع المدنيّ كما في الدول الاستبدادية والأنظمة الشمولية، أو أنّه يميل إلى الدولة في حال طغيان المجتمع الأهلي على الفرد، كما يحصل أحيانًا في بلد كلبنان يعاني من ضعفِ الدولة تِجاه الطوائف.[1]هذه الضبابية في تحديد مفهوم المجتمع المدنيّ يخلق إشكالاتٍ متعلقةٍ بالممارسةِ المفترضة في حال لم تكن النخبة المدنيّة على وعيٍّ بالدور التاريخي المنوط بها في مجتمعاتها. 
    • أزمة النخبة المدنيّة: لطالما كانت إحدى أهمّ المشكلات التي تعتري المجتمع المدنيّ كمساحةٍ رائدةٍ، هي النخبةُ المدنية إن صحّ وصفها، والتي تنبثق بالدرجةِ الأولى من ضعف الفهم العميق لجوهر الدور أو الأدوار التي يجب أن يلعبها المجتمع المدني بحسب الظروف القائمة. وهذا يُفهم في سياقين، الأوّل هو الأنظمة السلطوية التي ضيّقت هامشَ الفضاءِ العام التداولي في المجتمع بالقوةِ، ما ترتب عليه من إفتقار المجتمع المدنيّ إلى الممارسة العملية لأبسط حقوقه في الاجتماع والتداول حول القضايا التي تهمّه، ولعل ممارسات الدولِ الدكتاتورية لم تقف عند هذا الحدّ فقط، وإنما تعدّتها لتزييف الوعي عبر دعاية ممنهجة ترسّخ أفكار العمالة للخارج والخيانة لكلِّ من يعمل في المجتمع المدنيّ، إلى جانب خلق سلسلة من التنظيمات والاتحادات التابعة لها كإطارٍ مقبول لها يعمل على استيعاب الأفراد وتكييفهم تحت سقف السلطة

      أمّا السياق الثاني هو سوق التمويل العالمي للمنظمات غير الحكومية لدول العالم الثالث المتعثرة تنمويًّا، والتي أبرزت القطاع المدنيّ كقطاعٍ للعملِ أكثرَ منه قطاعًا لحماية الحقوق والحريات الفرديّة، وهذا الأمر إن ترافق مع الضعف في فهم الدور الحقيقي للمجتمع المدنيّ سوف يسهم في التفريغ شبه التام لمضمون المجتمع المدنيّ كقوّة نقديّة محركةٍ للمجتمع، وتصبح المنظمات المدنيّة منفذًا أعمى لأنشطةٍ ومشاريعَ قد لا تسمن ولا تغني من جوع. 

      هذا الإطار يطرح علي حرب تساؤلًا مفاده: “هل ما زال المثقفون يملكون المصداقية لكي يقودوا الناس نحو بناء المجتمع المدنيّ، التجربة تثبت أنهم يطرحون شعارات لا يقدرون عليها أو يعملون على انتهاكها. وبذلك همْ لا يختلفون عن الأنظمة التي يطالبونها، كما لاحظ ذلك البرازيلي ماركوس أحد قادة حركات التحرّر، وهكذا يشعر المرء بأن دعاة المجتمع المدنيّ يدافعون عن شعارهم بنصب المتاريس وإثارة الحواجز فهذا هو المسكوت عنه في كلامهم، وهذا هو اللاشعور المعرفي في انتقاداتهم، أنهم يتحدثون عن المجتمع المدنيّ وكأنهم يملكون مفاتيح الحقيقة والسعادة.  وهذا يقود إلى أن يصبح شعار المجتمع المدنيّ لا صدى له ولا رنين بين الشباب أو وسط شرائح المجتمع؛ فهو لم يعد النموذج الذي يشرح ويفسر أو يعبئ ويحرك. وهو ما يحدث في سوريا ولبنان، فالشعار يدور في أوساط النخب ولا يحرك قوى على ساحة المجتمع أو في هوامشه مما يجعل منه عملةً رمزيةً غير رائجة، وذلك وجه من وجوه المأزق.[2]
  2. المجتمع المدنيّ والمجتمع الأهليّ: 
    المجتمع الأهليّ لغةً يحيل إلى الأهل أي إلى العائلة والعشيرة، والمذهب، والحيّ، والحارة. فهيئات المجتمع الأهليّ هي المجالس والجمعيات العشائرية والقبلية والعائلية والمذهبية ومجالس الأحياء ومشايخ ووجهاء الحارات. ومن أهمّ الأمثلة على المجتمع الأهليّ هو ما يورده (حنا بطاطو) في كتابه تاريخ العراق بأنها مجالس الأحياء التي كانت لا تزال سائدةً في المدن العراقية حتى أوائل القرن العشرين، ويضرب مثلًا على ذلك مدينة النجف ويقول إنها كانت في عام 1915 تتألف من أربع أحياء ولكل حيّ دستوره ومجلسه ونظام علاقاته مع الأحياء الأخرى في المدينة. فالمجتمع الأهليّ بدون شك كان يلعب دورًا إيجابيًا وعاملَ توازن يسهم في حماية الرعيّة في إطاره المحدود إزاء ظلم وتعسف واستبداد الدولة العثمانية.[3]

    أما المجتمع المدنيّ فعلى النقيض من ذلك هو مجتمعُ الأفراد المواطنين بصفتهم المواطنية، القادرين على الدخول فيما بينهم بعلاقاتٍ تعاقديّةٍ قائمةٍ على مصلحةٍ سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. والهدف هو الصالح العام للمجتمع، بما هو تجاوز لانتماءاتهم الأهلية الأولية. وهذا يعني أن الشرط الأول للمجتمع المدنيّ هو وجود الدولة التي تعطي صفة المواطنة لأفرادها، وتعمل على حماية حرياتهم وحقوقهم ومصالحهم، وتصبح العلاقة الأقوى داخل المجتمع هي علاقة فرد مواطن بالدولة. 

    تتبدى الأزمة في المجتمعات العربية -بالرغم من وجود الدولة الحديثة (كهياكل ومؤسسات) – في السلطة الاستبدادية، المتوغلةِ لدرجةِ التماهي مع مؤسسات الدولة، لتصبح الدولة -محتكر القوة والعنف الوحيد- إلى أداة قمع للحريات ولكلّ ما لا يسر خاطر السلطة، وتتحول إلى ما يشبه الغول الذي يخيف المجتمع (مجازًا)، وهو ما يدفع الأفراد إلى الإحتماء منها، عبر تفعيل العلاقات الوشائجية الموروثة كالعشيرة والعائلة والطائفة في مواجهة هذا التغول.

    في هذه المجتمعات يواجه المجتمع المدنيّ تحدّياتٍ جمّة من ناحيتين؛ الأوّلى: من ناحية مواجهته للسلطة الاستبدادية حتى بناء دولة المواطنين. والثانية مواجهة البنى التقليدية للمجتمع التي سوف تمنع بالمقابل بناء دولة المواطنة؛ كون ذلك سوف يضعف من سلطتها لصالح حريّات وحقوق الأفراد المواطنين. 

    ويجدر التأكيد هنا إلى أن المجتمع المدنيّ هو ليس مناهضًا للمجتمع الأهلي، بل هو يشترك ويتقاطع معه في الكثير من الأمور، فالعاملين في المجتمع المدنيّ هم بالأصل أعضاءٌ في جماعات أهلية، لكن الأساس في عمل المجتمع المدنيّ هو نقل المجتمع من مستوى بناء العلاقات على أساسٍ تقليدي إلى علاقات على أساسٍ مواطني، بما يخدم التنوع القائم أساسًا في إطار الدولة الحديثة، وبما هو حفظ لحريات وحقوق الأفراد المواطنين.
  3. المجتمع المدنيّ وعلاقته بالسياسة والديموقراطية والسلطة:
    • المجتمع المدنيّ والسياسة:
      جوهر العمل المدنيّ هو سياساتي بالضرورة، فالمجتمع المدنيّ يمارس السياسية لإحداث التوازن كما أسلفنا ذكره، عبر الحشد والتنظيم والمطالبات والاحتجاجات والثورات؛ وهي كلّها أفعالٌ سياسيّة؛ لكن ما يميزها أن هدفها هو الصالح العام، وأي عمل مدنيّ خارج إطار العمل السياسي هو عمل مفرّغ من مضمونه الحقيقي. فالمجتمع المدنيّ بكافة أشكاله التنظيمية، بمثابة مشاركٍ في تأطير مسائل السياسة العامة وسجالاتها، لذلك يجب أن يتمتع بحقّ التعبير بحريّة بكل ما يتعلق بالشؤون ذات الأهمية العامة بما في ذلك التشريع أو ممارسات الدولة وسياساتها. وعلى نحو مماثل، يجب أن يتمتع بحقّ انتقاد المسؤولين الحكوميين والمرشحين لتولي المسؤوليات العامة (أو بحقّ إطرائهم) ولا يجوز أن يكون هنالك أي قيود على الحقّ في ممارسة الأنشطة السياسية العامة، كالتعليم والبحث والمدافعة ونشر المواقف.[4]

      وفي نفس السياق إن طرح مفهوم المجتمع المدنيّ بمفهومه “المتأخر” في المجتمعات التي لم تقم فيها النظرية السياسية على اعتبار المجتمع تعاقد بين مواطنين أحرار وبين الدولة كنتاجٍ لهذا التعاقد وخاضعة له، قد يعني عمليًا هروبًا من المعركة السياسية لدمقرطة الدولةِ إلى مؤسساتٍ غير حكومية تهدف إلى الاستقلال عن الحكومة، كأنها تعيش في دولة ديمقراطية بدلًا من الصراع مع الحكومة من أجل الديمقراطية[5].
    • المجتمع المدنيّ والديموقراطية:
      الديموقراطية باعتبارها أرقى أشكال الحكم الذي توصّلت إليه المجتمعات البشرية، وباعتبارها نتاجًا لنضالات الشعوبِ التي ثارت وطالبت فيما طالبته بأنظمة حكم تستند في شرعيتها إلى الشعوب، وتضمن مشاركة سياسية أوسع، وهذا ما يبيّنه العرض التاريخي في الجزء الأوّل من هذا الدليل. إذ أنّ هذه الثوراتِ أنهت النُّظمَ السياسية القديمة الحاكمة، وأنتّجت مفهومَ الدولة الحديثة في القرن السابع عشر، وأبرزت المجتمع كقوةِ فاعلة له رأيه ومطالبه في مواجهة السلطة، ومن هنا نتج مفهوم المجتمع المدنيّ “مجتمع المواطنين الأحرار”. بكونه “صيرورة نحو الديموقراطية” كخطوةٍ أولى، وهو الحامي لها بعد تشييدها كخطوةٍ لاحقةٍ، فهو -أي المجتمع المدنيّ- في علاقة عضوية وتشابكية مع الديموقراطية، يسعى إليها، ومن ثم يعمل على حمايتها وتطويرها واستدامتها. 

      وبالرغم من أن نشوء الديمقراطية يفترض نظريًّا وجودًا مسبقًا وعملًا جيليًّا متصلًا للمجتمع المدنيّ، لإنجاز المهمة الثورية الاستراتيجية المتمثلة في بناء قطبٍ تقدميّ في المجتمع، يحمي الحريات العامة ويكرسها، كما ينجز إجرائيًّا مقدماتِ التحوّل الديمقراطي عبر رعاية ومواكبة العملية السياسية، إمّا بتكريس ثقافة الرأي الحرّ عبر الممارسات الديمقراطية في المنظمات أو عبر المراقبة، أو رعاية الانتقال الديمقراطي مباشرة في بعض الأحيان كما حصل في تونس عندما قادت الرباعية (المؤلفة من أكبر أربع تنظيمات نقابية ومدنية) الحوار الوطني بين الأطراف السياسية بعد استعصاء سياسيّ. إلّا أنّ ذلك لا يعد شرطًا لنشوء الديموقراطية، فالمجتمع المدنيّ هو نتاج للديموقراطية وليس قاعدتها، واعتباره كشرطٍ مسبقٍ لتحقيق الديموقراطية في المجتمعات يعدّ إرباكًا وخلطًا للمفاهيم.[6]

      فتطوّرُ المجتمع المدنيّ كقطبٍ مستقل في سياساته وأنشطته، حدث بالتماهي مع تاريخ تطوّر الديمقراطيات الغربية والدساتير العلمانية التي تقرّ للفرد بحرياته الأساسية. هكذا، فإن المجتمع المدنيّ من هذا المنظور يشكّل أداةَ إصلاحٍ سياسي بدائلي مضاد للشمولية، ورديفٍ للمجتمعات المحلية يدعم الاستقلال واللامركزية، ويقوم بجهودَ على صعيد الإغاثة الإنسانية في حالات الحروب والكوارث.
    • المجتمع المدني والسلطة:
      الأهمية المتزايدة للمجتمع المدنيّ كطرفٍ فاعل ويعتدّ به في التنمية، جعل منه شريكًا في تنفيذ أجندات التنمية الشاملة الممولة دوليًا ومن جانب حكومات الدول الكبرى. وهو ما لم يرق للحكومات في دول العالم الثالث التي نظرت إلى المجتمع المدنيّ بتوجّس واعتبرته حصان طروادة وأداةً للاستعمار والهيمنة غير المباشرة، ما جعلها تناصبه العداء كما في السجال الذي دار في مصر بُعيد الثورة المصرية على خلفية التمويلات الأمريكية لمنظمات المجتمع المدنيّ المصرية في عام 2011 حيث رفضت القاهرة إشراك ممثلينَ عن المجتمع المدنيّ والقطاع الخاص في إدارة صندوق المساعدات الأميركية.[7]

      ولعل مسألة الحصولِ على التمويل ليست هي العاملَ الوحيد في هذا العداء، وإنّما الدور السياساتي الذي يُفترض أن يضطلع به المجتمع المدنيّ، في المساءلة والمراقبة ومكافحة الفساد، إلى جانب السعي لتحقيق أنظمةٍ أكثرَ عدالةً وتمثيلاً؛ وهي كلها مساحات لا تسمح الأنظمة السلطوية في وجودها بشكل حرّ، لأن ذلك يهدد سلطتها “منقوصة الشرعية”، حيث تسعى بكل الوسائل الممكنة إلى محاربة وجود الحيز المدنيّ، والذي وصل في بعض الدول؛ كما في سورية إلى محاربة حتى تداول مصطلح “مجتمع مدنيّ”، حيث حرصت في جميع الأدبيات والقوانين إلى تفادي ذكرها في بادئ الأمر، حيث لطالما استبدلتها بمصطلح المجتمع الأهليّ، والجمعيات الأهلية. ومع الاهتمام الدولي المتزايد بالمجتمع المدنيّ بدلت استراتيجيتها واعتمادت أسلوب خلقِ جملة كبيرة من المنظمات وإلحاقها بالسلطة لتكون أداةَ السلطةِ في مخاطبة المجتمع الدوليّ من جهة، وأداةَ تزييفٍ لإرادة المجتمع من جهة ثانية، وهذه المنظمات غالبًا ما تكون مستقلة (شكلًا) عن السلطة وتوجهاتها، وملحقةً بها (مضمونًا وجوهرًا). 

      ومن الناحية الأخرى لا يجب أن نغفل عن ذكر مثال مهم عن علاقة المجتمع المدنيّ بالسلطة في الشرق الأوسط، وهو المثال التونسي، حيث بالرغم من محاولات السلطة السيطرة على المجتمع المدنيّ إلا أنّها لم تستطع القضاء تمامًا على استقلالية النقابات والاتحادات والجمعيات، ولذلك كنا نرى بين فترة وأخرى انتفاضة تحدث: ثورة الخبز في تونس العاصمة في أواسط الثمانينات، الاحتجاجات على رفع سعر السميد قبل شهر رمضان، وأكبر هذه الاحتجاجات انفجرت في 17ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بو زيد بعد أن أضرم بائع الخضار المتجول الخريج الجامعي محمد بوعزيزي النار في نفسه، وكانت هذه الحادثة شرارةَ ثورةٍ عارمةٍ عمّت تونس أودت بحقبةِ زين العابدين بن علي الاستبدادية[8].  

الرباعية التونسية ورعاية الحوار الوطني:

حصلت الرباعية التونسية الراعية للحوار على جائزة نوبل للسلام 2015 والتي تشكلت الرباعية من أربعة منظمات: الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، في صيف 2013، بينما كانت عملية الانتقال إلى الديمقراطية تواجه مخاطر نتيجة اغتيالات سياسية واضطرابات اجتماعية على نطاق واسع. قادت هذه الرباعية وساطة، وقامت بتنظيم “حوار وطني” طويل وصعب بين الإسلاميين ومعارضيهم وحملتهم على التوافق لتجاوز شلل المؤسسات. وبحسب لجنة نوبل للسلام أطلقت الرباعية عملية سياسية بديلة وسلمية في وقت كانت فيه البلاد على شفير حرب أهلية”. ووصفت هذه الوساطة بأنها كانت “حيوية” وأتاحت لتونس الغارقة في الفوضى “إقامة نظام حكم دستوري يضمن الحقوق الأساسية لجميع السكان بدون شروط تتصل بالجنس والأفكار السياسية والمعتقد الديني”.

(DW، 2015)


[1]  علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول، ص 132.

[2]  علي حرب. (2002). العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول، ص 143

[3]  نقولا زهر. (23 01, 2011). هل من فرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي؟ تم الاسترداد من الحوار المتمدن

[4] يون إي. آيريش، روبرت كوشين، كارلا دبليو. سايمون. (1997). دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني. تم الاسترداد من دليل القوانين المؤثرة في منظمات المجتمع المدني، ص 59.

[5] عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 67.

[6]  عزمي بشارة (2012). المجتمع المدني دراسة نقدية، ص 66.

[7] – اعتبرت واشنطن «تخوين» المنظمات الممولة أميركيا «تصعيدا غير مبرر». وفي نفس السياق نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز في تعليق لها أن جهود الولايات المستمرة لتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في مصر «ينظر إليها بشكل خاطئ». وأشارت إلى أن المجلس العسكري صور الجماعات التي تحصل على التمويل الأميركي وكأنها تعمل لحساب حكومة أجنبية. وذكرت أن المجلس خاض معركة وراء الكواليس عدة شهور، لمنع واشنطن من إعطاء الأموال إلى الجماعات المؤيدة للديمقراطية خارج نطاق الإشراف المباشر للحكومة المصرية. (هويدي، 15)

[8]  نقولا زهر. (23 01, 2011). هل من فرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي؟ تم الاسترداد من الحوار المتمدن.